خليل صويلحليس ما يكتبه محمد العباس عن شعرية وديع سعادة نقداً بقدر ما هو نص موازٍ، يقتفي أثر هذا الشاعر المفرد في ذاتيته واغترابه وآلامه الشخصية، وذلك عبر منهج تراسلي. وإذا بضمير المخاطب هو مَن يوجّه مسار النص نحو «فتنة المجاز». بهذا المعنى، فإنّ كتاب «كتابة الغياب: بطاقات مكابدة لوديع سعادة» (دار نينوى ـــــ دمشق)، لا يحلّل نصوص صاحب «ليس للمساء أخوة»، بل يتماهى في نسيجها ويتسلل إلى هوائها بحثاً عن الرائحة حيث «امتزاج المتعة بالألم». هكذا يواجه العباس الألعاب اللغوية للشاعر بألعاب مضادة تسعى إلى تطويع النص نحو مسارب إضافية تلتقي في منتصف الطريق إلى الغابة لنصب فخاخ مشتركة لصيد مزيد من الطرائد. ها هنا قراءة معانقة، وتمجيد لنص يرى العباس أنّه لا يشبه سواه. وهو ما استدعى هذا النوع من المنادمة اللغوية. تحتشد فصول الكتاب بإحالات إلى خبرات نقدية معترف بها لتكريس تصورات جمالية، يعتقد صاحبها أنّها تؤكد صحة مساره في اكتشاف تضاريس شعر وديع سعادة من موقع القارئ أولاً، والمنطلقات الجمالية لشروط الاستقبال والتلقّي ثانياً. هكذا يحاول محمد العباس حراثة النص ذهاباً وإياباً، عسى أن يصطدم بكنزٍ مخبوء، لم ينتبه إليه في القراءة الأولى، في حركة لولبية تقوم على «الإمحاء والنسيان» وفحص أكبر قدر من الشفرات المبثوثة في النصوص «المصهورة بحرقة التجربة والغياب ووطأة الجمال المعذّب». سبع مقاربات نقدية تبدأ بمخاطبة الشاعر مباشرة «مجموعاتك، ليست مجرد نصوص شعرية تستمد جذوتها من تجريد الحياة، إنما هي الحياة كما حدثت منصّصة». سوف يتوغل الناقد نصاً وراء آخر في سريالية وديع سعادة واحتضاره في مقاسات وعبارات ومزاجات مختلفة، لاستعادة طقس الفقد بقصد العثور على الطمأنينة. لكنّ هذه الهشاشة تجاه ما هو غائب ليست قاعدة، حسب ما يراه الناقد/ القارئ. إذ تتحول الكتابة إلى قسوة، وخصوصاً في «بسبب غيمة على الأرجح». في هذه المجموعة، يغرق الشاعر في «كثافة حسيّة تفصح عنها العبارات المتلاحقة في نظام لغوي خالص ومنقطع عن مرجعه الواقعي». في «نص الصمت والغياب»، يلفت الناقد إلى ضجيج اللغة من جهة والصمت بوصفه أعلى درجات الكلام من جهة ثانية، في نبرتين متجاورتين تتحاوران برنين خافت مرة، ليعلو في مقام آخر. إنّه حوار الصمت، وإقامة «مأدبة عامرة للعدم». يقول وديع سعادة في هذا السياق «أحاول أن أخترع كلمات لا تكون دليل نقيضها. حين تخرج من فمي لا تكون رغبة في القول بل فعل الرغبة». هنا تكمن خصوصية هذا الشاعر في اختراع لغة تجرف كل ما هو متراكم من غبار في طريقها إلى اللامرئي والمدهش. يخاطبه العباس عند هذا المنعطف «وديع، مهما أوغلت في ركضك وخفتك، ركضت معك أغلالك». ثم يستنجد بعبارة للشاعر تفيد معنى الغياب «على الأرجح، تبدأ من النقطة الصغيرة الممحوة. النقطة التي لا تكاد تُرى، بين احتضار الصوت وولادة الصمت».
لغة وديع سعادة، وفقاً لمراودات هذا الناقد السعودي، تقف على الحافة، تنصت إلى أجراس غامضة لتعيد تركيب الكلام إلى صوت يتلاشى كلما أمعن في الغياب، كمن «وضع قدمه على النقطة الأخيرة للحافة وراح يغنّي للخطوة التالية».