المراهق الحسّاس والضعيف الذي فضح زيف المجتمع الأميركي
«الحارس في حقل الشوفان» صارت إنجيل المراهقين الأميركيين بعدما أغضبت آباءهم. إنّه ناسك النيو هامبشر الذي يحتفظ من الحرب العالميّة «برائحة لحم محترق». الكاتب الأميركي الذي بلغ التسعين، في عزلة كوخه الصغير، لم ينشر نصّاً واحداً منذ أكثر من أربعين عاماً، لكنّه يكتب يوميّاً... لنفسه فقط!

أحمد الزعتري
«يا إلهي، إنه يمتلك موهبة جهنّميّة»، هكذا قال إرنست همنغواي عن الجندي الأميركي الذي سعى إلى مقابلته في الحرب العالميّة الثانية في باريس 1942. كان هذا الجندي الذي يبلغ 23 عاماً، وشارك في إنزال النورماندي، يدعى جيروم دايفيد سالينجر (1951): كَبر في مانهاتن الراقية ـــ مركز الترفيه في مدينة «التفّاحة الكبيرة» ـــ وتخرّج من مدرسة عسكريّة... قبل أن يكتب روايته الطويلة الوحيدة «الحارس في حقل الشوفان» (1951 ــــ راجع الكادر)، ويعتزل في كوخ في أقصى شمال شرق أميركا (نيو هامبشر). هناك راح يكتب يوميّاً من دون أن ينشر شيئاً: «أحب الكتابة، لكنني أكتب فقط لنفسي ومتعتي». سيوصي ابنته ــــ بعد موته ــــ بأنّه إذا وجدتِ علامةً حمراء على مخطوط «فانشريه كما هو»، أما العلامة الزرقاء، فمعناها أن المخطوط «يدقّق أولاً ثم ينشر».. وسيُصادق فقط أطفال مدرسة قريبة، لكنه سيقطع علاقته بهم بعد أن «تضحك» عليه طالبة وتنشر لقاءها معه. ببساطة، لا أحد يمكنه أن يشبه شخصيّة هولدن كولفيلد إلّا سالينجر.
هولدن كولفيلد، المراهق الحسّاس والضعيف الذي يقف في مواجهة زيف العالم، هو من أبرز الشخصيات الأدبيّة المعاصرة وأكثرها تأثيراً، وهو غالباً ما يَخرج من رواية سالينجر «الحارس في حقل الشوفان»، ليحاكم العصر الاستهلاكي والترفيهي. وهو الذي سيُلهم مارك دايفيد تشابمن باغتيال الموسيقي البريطاني جون لينون (1980): يومها، جلس تشابمن في ردهة الفندق ليقرأ الرواية في انتظار الشرطة، وفي إفادته سيدافع عن نفسه قائلاً: «أنا متأكد أنّ جزءاً كبيراً منّي هو هولدن كولفيلد، والجزء الأصغر منّي هو الشر». الرواية ستلقى ضجيجاً لدى صدورها، وستمنع قراءتها في المدارس، وسيُطرد كثير من المدرّسين لاقتراحهم قراءتها على الطلاب. أحد الآباء الغاضبين عدَّ 237 لعنة، 58 كلمة حقير، 31 «بحق المسيح»، و6 كلمات تبدأ بحرف الـ F أي Fuck. لكن في النهاية، ستصبح الرواية إنجيل المراهقين السريّ، وستُطبع منها 250 ألف نسخة سنويّاً.
بعد كل هذا الاهتمام العالميّ، لن يشعر ذلك العجوز الذي أصبح عمره أخيراً 90 عاماً، بالرغبة في ترك كوخه في نيو هامبشر. بتتبّع مسار حياته وماضيه، سنقع على شاب مترف يعشق التمثيل، دفعته طبيعة أمه المبالغة بالاهتمام إلى التواري في الصفوف الدراسيّة. حتى إنّ محرّر مجلة Story ويت بيرنتّ لم يُبدِ اهتماماً به في صف الكتابة إلّا قبل نهاية الفصل بأسابيع قليلة، وسينشر له القصّة القصيرة «الشباب الصغار».
بعد ذلك، سيواعد أونا أونيل التي ستتركه لتتزوّج تشارلي شابلن. عندها ستتفجّر طاقاته وسينشر في الـ«نيو يوركر» قصصاً قصيرة مثل «غداء لثلاثة أشخاص»، «ذهبت إلى المدرسة مع أدولف هتلر»... وسيظهر هولدن كولفيلد في قصة «ثورة تافهة بعيداً عن ماديسون». بعدها سيشارك سالينجر في الحرب العالميّة الثانية، وسيقول لابنته «لن تستطيعي أبداً التخلّص من رائحة اللحم المحترق من أنفكِ مهما عشت»، وسيكتب قصة «إلى إزمي مع الحبّ والقذارة». ثمّ أبدى اهتماماً ببوذيّة الزنّ، وكتب متأثراً بها القصة القصيرة الشهيرة «يوم مثاليّ لسمكة الموز» (1948). تلك القصة التي أسّست أسلوبه السرديّ لاحقاً، من خلال عائلة غلاس التي تصبح جزءاً أساسيّاً من كتبه في «فراني وزووي» (1961) وغيرها.
وبعد نشر «الحارس في حقل الشوفان»، سيعتنق بوذية الزنّ، ما دفعه للابتعاد تدريجاً عن المشهد الثقافي والإعلامي، هارباً من كل ذلك إلى الكوخ النائي، رافضاً إطلاع أحد على ما يكتبه، هارباً من اهتمام المخرجين السينمائيين بروايته، المقابلات على أشكالها، ومحبيه الذين سيتوافدون جماعات إلى المنطقة طمعاً برؤيته. لكن... في عام 1972، وكان في الثانية والسبعين، سيقيم علاقة مع جويس ماينارد التي لا تتجاوز الثمانية عشر عاماً، سيتبادلان الرسائل، ويدعوها إلى قضاء الخريف في منزله. العلاقة ستنتهي لأن ماينارد «أرادت أطفالاً وأشعرَته بأنه عجوز».
ورغم عزلته، منكبّاً على الكتابة اليوميّة، سيدافع بضراوة عن كل محاولة لاستغلال سمعته وحياته، ستنشر ابنته مارغريت من زواجه الثاني كتاباً عن حياته في 1999، وستبيع عشيقته ماينارد رسائلهما المشتركة في المزاد «لأسباب ماديّة»... فيجيء ردّ سالينجر بسيطاً: سيقطع علاقته بابنته، وسيزداد عزلةً على عزلة. لا شيء جديداً حتى الآن عن الرجل، إذ باءت محاولات الصحافة للحصول على مقابلة أو تصريح أو حتى صورة منه بالفشل، ويتقصّى محبّوه أنباءه بشغف، حتى إنّ شائعات تنتشر عن أنّ أعمال الروائيّ توماس بينكون (الغائب تماماً عن المشهد الإعلامي)، هي في الحقيقة لسالينجر نفسه.
في عام 1996 كانت دار نشر صغيرة في فيرجينيا تعتزم إعادة نشر قصّته Hapworth 16, 1924 التي لم تصدر في أي كتاب منذ نشرتها الـ«نيو يوركر» قبل ذلك بثلاثة عقود (1965)، وقد ذاع الخبر فانهالت المقالات والاتصالات، وأعيد تسليط أضواء الإعلام على الكاتب المختبئ في صومعته، لكنّه غيّر رأيه وأوقفت العمليّة في اللحظات الأخيرة، ومن ذلك الحين تطالعنا بين الحين والآخر أخبار جديدة عن صدور وشيك للقصّة التي ينتظرها الجميع. قيل إن الموعد سيكون في عيد ميلاده التسعين مطلع العام الحالي، وما زال القرّاء ينتظرون إطلالة ذلك الروائيّ الشاب الذين توقف الزمن بالنسبة إليه عند عام 1951، وما زال مرجعاً للأجيال في فضح زيف المجتمع الأميركيّ.

عن الرواية، وترجمتها العربيّة بتوقيع غالب هلسا



ليس مجحفاً اختصار سالينجر إلى رواية واحدة، رغم إصداره لعدد من النوفيلّات والمجموعات القصصية القصيرة... بإمكان القارئ أن يحيط فعلاً بعالم هذا الكاتب، وهو يقرأ «الحارس في حقل الشوفان» التي دخلت إلى المكتبة العربيّة بفضل الأديب الأردني الراحل غالب هلسا (الطبعة الثانية ــــ دار أزمنة ــــ 2007).
الرواية مكتوبة بعاميّة أهل نيويورك بكل سخفها وقذارتها وزيفها، يرويها مراهق مضطرب وحسّاس في السادسة عشرة، اسمه هولدن كولفيلد، عن رحلته بعدما طرد من المدرسة الخاصة التي يعوّل عليها والده في تحويله إلى شاب محترم
يمضي الشاب فترة الرواية (بضعة أيام) بعد الحرب العالميّة الثانية في البارات والنوادي الليلية منغمساً في عالمها المزيّف، «كان عليك أن ترى الجمهور ساعة انتهائه من العزف، كان ذلك سيدفعك للتقيّؤ (...) أقسم بالله لو أنني كنتُ عازف بيانو ورأيت هؤلاء البلهاء يصفقون لما أحببتُ ذلك»، متنقّلاً في سيارات الأجرة، يسأل سائقيها عن البط في بحيرة الـ«سنترال بارك»: أين سيذهب عندما تتجمّد البحيرة؟ محاولاً أن يفقد عذريته مع مومس بلا جدوى. علاقاته المبتورة مع زملائه وأساتذته في المدرسة لن تفعل شيئاً إلا الإمعان في ضياعه. لذا، لن يجد الحقيقة إلا في علاقاته مع الأطفال من حوله، وخصوصاً أخته الصغيرة فيبي التي تصحّح له اقتباسه من قصيدة لروبرت بيرنز «الحارس في حقل الشوفان».
هذا المراهق الذي يريد إدارة ظهره للزيف الأميركي، يصبح ذلك الحارس الذي ينتصب على هوة حقل ليمنع الأطفال من أن يسقطوا فيه. كل ذلك بحسٍّ تهكّمي عالٍ، ممتع، وذاتيّ بشكل مَرَضيّ. لن يعود القارئ ـــــ بعد قراءة الرواية ـــــ إلى مذاقه الأدبيّ قبل قراءتها.
لكن هل ترضينا فعلاً نسختنا العربيّة؟ نشير هنا إلى دراسة قصيرة نشرها نبيل توفيق حاتم في مجلّة «الآداب الأجنبية» السوريّة (العدد 135 ـــــ صيف 2008). يطرح حاتم مقارنة عميقة بين الرواية بلغتها الأصليّة التي «انتزعت من رائحة قطارات نيويورك، ومن الحانات وبيوت الطلبة، ومن الألفاظ الحمراء لأزقة المخدرات وبائعات الجسد، وحتى تلك اللغة المتكلّفة التي يحكيها المثقفون»... وترجمة هلسا الذي أفاد من أجواء الروايات الأميركيّة مثل روايات فوكنر، في روايته «سلطانة» مثلاً، لرصد التحوّلات الاجتماعيّة، من دون أن يطّلع على بنية المجتمع الأساسيّة. لذا ـــــ وبحسب توفيق ـــــ ابتعد هلسا عن روح اللغة الأصليّة. مثلاً يترجم هلسا كلمة Pretty: جميل، بينما تذكر في الرواية كمصطلح توكيد ومبالغة، مقترحاً ترجمة أخرى للعنوان: «المنقذ في حقل الجودار».