عالم الاجتماع والاقتصاد الفرنسي الذي أثرّ في كارل ماركس، وجيل كامل من الفلاسفة، يحتفل العالم بمئويّته الثانية. عودة إلى المفكّر الذي عدّه صاحب «رأس المال» مؤسس الاشتراكية الطوباوية
ديما شريف
بعد 200 عام على ولادته سنة 1809، لا يزال بيار ــــ جوزيف برودون يحتل مركزاً مهماً في تاريخ الفكر الحديث. «مخترع» الفوضوية الحديثة أخذ اشتراكية سان سيمون وشارل فورييه ليطوّرها ويؤثر في الملايين عبر اشتراكيته ذات الطابع السلمي. كان برودون ينادي بالثورة غير العنفية ما أدى إلى صدمته من العنف الذي رافق ثورة 1848 في فرنسا.
أثرّ عالم الاجتماع والاقتصاد الفرنسي في جيل كامل من المفكّرين أهمهم ربما كارل ماركس الذي كان يرى أن صاحب «اعترافات ثوري» مؤسس الاشتراكية الطوباوية ومسهم مهم في تكوين الاشتراكية العلمية. واكتشف ماركس Pierre-Joseph Proudhon عندما نشر هذا الأخير كتابه «ما هي الملكية؟ بحث في مفهوم القانون والحكومة» في 1840 واقتنع بعد قراءته بضرورة إزالة الملكية الخاصة. لفت هذا الكتاب أنظار السلطات الفرنسية إلى برودون إلى جانب كلّ المفكرين آنذاك. فلاحقته الدولة، وبدأت صداقة بالمراسلات بينه وبين ماركس. والتقى برودون ماركس لاحقاً عندما كان صاحب «رأس المال» منفيّاً في باريس.
ويقول ماركس في «العائلة المقدسة» (1844) إنّ «برودون لا يكتب فقط لصالح البروليتاريا، لكنّه من الطبقة العاملة، وعمله يمثّل مانيفستو علمياً للبروليتاريا الفرنسية». لكنّ صداقة الرجلين انتهت عندما نشر ماركس «بؤس الفلسفة» رداً على كتاب برودون «نظام التناقضات الاقتصادية أو فلسفة البؤس». ورغم ذلك، لم يكن برودون ينتقد ماركس علناً.
برودون أصلاً لم يكن لطيفاً بحق الفكر الاشتراكي والشيوعي إذ كان يرى مثلاً أنّ «الشيوعية عدمية وتمثّل السكون، الليل والصمت»، كما قال في كتابه «فلسفة البؤس». وكان يقول عن اشتراكية شارل فورييه إنّها لا تحتوي سوى الحماقات والجهل. وكان صاحب مقولة «الملكية الخاصة هي سرقة» يرى أنّ الحرية سبب عدم المساواة لكنّها ضرورية، وأنّ التطور التقني يزيد الإنتاج لكنّه يستعبد الأجير. كما كان يعتقد بأنّ هذه التناقضات أزلية لكنّها لا تؤدّي إلى زوال الرأسمالية كما كان ماركس يقول.
لم يترك برودون مجالاً إلّا وعمل فيه فكان إعلانياً، صحافياً، وعالم اجتماع واقتصاد. ومن هنا تأثيره الكبير في مفكّري عصره مثل ميخائيل باكونين الذي طوّر اشتراكية برودون في ما عرف لاحقاً بـ«الاشتراكية التحررية»، عالم الاجتماع الفرنسي جورج سوريل والناشر الأميركي بنجامين تاكر.
كما أسهم عمله في ثلاث صحف أسسها إبان ثورة 1848 في نجاحه لعضوية الجمعية التأسيسية في ذاك العام. إذ وصل عدد النسخ المبيعة من إحداها إلى 70 ألفاً ما جعله في موقع تأثير مباشر في الناس. لكن لم يأتِ العام التالي إلّا ودخل السجن لثلاث سنوات لإهانته رئيس الجمهورية آنذاك لوي بونابارت. بعد 10 سنوات، سيصدر حكم ثان بسجنه إثر نشره كتاب «الأسس الجديدة للفلسفة» فهرب إلى بلجيكا ليرفض من هناك مع فيكتور هوغو ولوي بلان العفو عنهم.
«الفوضوية هي الترتيب في السلطة»، كان يقول برودون الذي أسس أول مصرف يقرض بفوائد منخفضة جداً، كان وراء فكرة الصناديق التضامنية التي تنتشر اليوم في أماكن عدّة في العالم، كما دافع برودون في كتاباته عن الحرية الشخصية مقابل كل سلطة مسيطرة: الكنيسة، الدين أو كلّ الديكتاتوريات الأخرى الموجودة، وكان يردّد دائماً أنّه لا يجوز التضحية بالإنسان من أجل المصلحة العامة أو حتى العدالة الاجتماعية.
تأثير سان سيمون كان واضحاً في أفكار بيار ــــ جوزيف برودون فهو كان يؤمن بأوليّة الاقتصاد على السياسة، وبأنّ علم الاقتصاد هو الوحيد القادر على إحداث تغيير في المجتمع. برودون ما زال حاضراً اليوم. إذ إنّ التعقيد الذي اتسم به فكره جعل عديدين يأخذون منه ما يناسبهم ليطوّروه مثل الفدرالية، الإقليمية غير المركزية، ليصبح برودون الجد المؤسس لأكثر من 10 تيارات فكرية سياسية فوضوية حول العالم.