«12 لبناني غاضب» في سجن روميةبيار أبي صعب
حين ندخل إلى المسرح عادةً، نشعر بالرهبة. لأنّنا ننتقل من الحياة العاديّة المتاحة للجميع، إلى فضاء خاص، له طقوسه وأصوله، قواعده وتقاليده... نستعيد فيه ــــ لبرهة محدّدة من الزمن ــــ شيئاً من الحياة التي تركناها في الخارج. وتتمّ تلك الاستعادة عن طريق احتفال يحييه وسيط من نوع خاص هو الممثل (وما ومن وراءه)، أمام جمهور مختار، جاء ليشهد، ليعيش الآن وهنا، لحظة استثنائيّة لا يمكن أن تتكرّر في أيّ مكان أو زمان آخرين. المشاهد والممثّل على السواء، يعيشان لحظة العودة إلى الذات: غاية العرض المسرحي بامتياز.
أيّ رهبة نشعر بها إذاً، و«الفضاء الخاص» الذي ندخله هذه المرّة، قائم داخل حيّز أكبر، يضاهيه في الخصوصيّة والاستثنائيّة، كونه أكثر انغلاقاً وعزلة عن «الحياة في الخارج»؟ نحن في مسرح داخل سجن. الأسوار انفتحت فجأة لاستقبال جمهور غير مألوف، جاء يواجه، بل يخالط، بعضاً من نزلاء هذا المكان ممن وضعهم المجتمع على هامشه. المساجين سيمثّلون، سيصبحون ــــ لبرهة محددة من الزمن ــــ هذا الـ«وسيط من نوع خاص» الذي يضعنا وجهاً لوجه أمام ذواتنا... أمام مسؤولياتنا كأفراد، كبشر ومواطنين. أمام المجرم المحتمل في كلّ واحد منّا. أمام نظرتنا إلى «المجرم»، وشراكتنا الجماعيّة غير المباشرة في «جرائمه»، بشكل أو بآخرتلك الحالة المركّبة، تستدرجنا إليها هذه الأيّام، فنّانة لبنانيّة مميّزة اسمها زينة دكّاش، يعرفها الجمهور العريض من خلال برنامج كوميدي ساخر على محطّة lbc (بس مات وطن). مع «١٢ لبناني غاضب» نكتشف «ايزو» من زاوية مسرحيّة بالمعنى الصرف. إذ تذهب في تعاملها مع المسرح إلى أقصى احتمالاته: وسيلة للتطهّر بالنسبة إلى السجناء، بالمعنى الإغريقي القديم («كاثارسيس» اسم الجمعيّة التي أسّستها زينة). وفي الآن نفسه، ورغم التناقض الظاهري، يعتدي العرض على المتفرّج «المستقيم» (صاحب السجلّ العدلي النظيف)، ويحرّضه على الوعي، استناداً إلى تقنيّات «التغريب»: من غناء، ومخاطبة مباشرة للجمهور، ومونولوغات يقدمها المساجين بين المشاهد عن تجاربهم وجرائمهم وندمهم إلخ. نذكر خصوصاً «مقدّم» العرض القريب من القلب «شنكر» الذي يبدأ بتقديم نفسه كعميد السجناء (١٨ سنة).
نحن خلف القضبان، بين المحكومين في «سجن رومية» اللبناني، في بهو كبير تحوّل فضاءً مسرحيّاً، مع بروجكتورات ومدارج وستائر حمراء وكتابات غرافيتي على الجدران... جئنا، تماماً كما في مسرحيّة بيتر فايس الشهيرة «مارا ــــ ساد» التي خلّدها المعلّم بيتر بروك، إذ يأتي جمهور من الأعيان وعلية القوم إلى مصحّ شارنتون، لمشاهدة العرض الذي سيمثّله المرضى العقليّون لنصّ كتبه الماركي دو ساد نزيل المصحّ. كالمتلصّصين نحيط بالحلبة، بالمستطيل الذي يحتضن اللعبة. نتوزّع على جهتي الطول، فيما جهتا العرض مخصصتان للكواليس، ولمسرح صغير عند الطرف الآخر يؤدي فوقه الكورس البريختي «يا دنيا فيكي العجب» وأغنيات لافتة وجميلة أخرى، بمرافقة الدربوكة والدف والعود (ألحان «المهاجر»، كلماته مع سيمون دنيا، ونضال زعيتر بيكولو...).
العرض يشارك فيه المساجين فقط، تمثيلاً وغناءً وتلحيناً وإضاءة وتحريكاً للتقنيات. «نحن» و«هم» تفصل بيننا سنتيمترات، في هذه القاعة العارية، الباردة، الهائلة الارتفاع والمظلمة. تسعى المخرجة زينة دكّاش إلى محاصرتنا حدّ الاختناق، من خلال رؤيتها السينوغرافيّة وتوظيف الفضاء والحركة والرقص، وتوليف المَشاهد، واستعمال الإضاءة، وإدارة الممثلين وأسلبة العنف. المساجين المتحلّقون حول الطاولة المستطيلة (يتناوب أكثر من ممثّل على الشخصيّة الواحدة)، هم هيئة الحكم، المحلّفون الذين يتداولون حول مصير شاب متّهم بطعن والده حتّى الموت... هناك جارة قالت إنّها رأته يرتكب الجريمة، وجار قال إنّه سمعه يهدد والده، وصاحب محل مجاور شهد أنّه باعه السكين نفسه ليلة الجريمة. فإما أن تجمع هذه الهيئة الشعبيّة على براءة المتّهم، أو تذهب به، بالإجماع أيضاً، إلى حبل المشنقة. وفي حال تعذّر الإجماع، يصار إلى تكليف هيئة جديدة بالتصديق على قرار المحكمة أو نقضه.
المسرحيّة التي تقدّم للجمهور كلّ سبت خلال الشهرين الجاري والمقبل، في إحدى قاعات «سجن رومية»، مأخوذة بتصرّف عن نص للأميركي ريجينالد روز (١٩٢٠ ــــ ٢٠٠٢) بعنوان «إثنا عشر رجلاً غاضباً» يعود إلى عام ١٩٥٣. وقد حوّله السينمائي المعروف سيدني لاميت إلى فيلم بالعنوان نفسه حاز «الدبّ الذهبي» في «مهرجان برلين» (١٩٥٧)، وما زال يعتبر من أهمّ عشرة أفلام في تاريخ الفنّ السابع. وقد عملت زينة دكّاش بنفَس طويل مع ممثليها على استيعاب النصّ، واقتباسه وتكييفه مع الواقع المحلّي. مثلاً شخصيّة المحلّف اليهودي من أوروبا الشرقيّة الذي يثير عنصريّة بعض زملائه في النص الأصلي، انتقلت هنا إلى سجين نيجيري، علماً بأن المسرحيّة يشارك فيها سجناء من العراق ومصر وسوريا وبنغلاش...
حين تبدأ المداولات يكون كل المحلّفين (موظف بنك، صاحب كاراج، مدير شركة صغيرة، عامل بناء، عاطل من العمل، مهندس معماري، متقاعد، ساعاتي، وكيل تجاري عميل بورصة، موظف شركة إعلانات...) مقتنعين بأن المتّهم مذنب... باستثناء واحد يجاهد من أجل تسليط الضوء على مناطق الشك. ومع تقدّم الوقت، تتبلور القرائن والمعطيات المثيرة للشك، فيعلو الجدل بين المحلّفين. وكلّما أعيد التصويت، ازداد عدد المشككين في إدانة المتهم... حتى تنتهي المداولات وقد أجمعت الهيئة على... براءته! اختيار دكّاش الموفق للنصّ يقلب الأدوار ويضع «المجرم» (في الحياة) في موقع الحكم على الجريمة (في اللعبة المسرحيّة). ويبدأ كل منهم مصرّاً على إعدام المتّهم، ثم يتطوّر إلى ترجيح براءته، ما يعطي لخطاب المسرحيّة تأثيراً مضاعفاً: المجرم أيضاً ضحيّة، والمجرم ليس دائماً ذلك الذي نعتقد، رغم الأدلّة الظاهرة للعيان.
المسرح الذي مارسته دكّاش خلال السنوات الماضية مع المدمنين في سياق «العلاج بالدراما» («أمّ النور»)، تستعيده هنا أداةً تربويّة بامتياز، من دون أي انتقاص من فنيّته وجماليّاته ـــ بل بالعكس: نحن أمام عمل مسرحي متماسك ومقنع وآسر، ليتنا نشاهد مثله باستمرار في المسارح اللبنانيّة والعربيّة. يبذل السجناء جهداً حقيقياً، وينجح معظمهم في أداء الشخصيّة، والإمساك بالإيقاع وتطوّر الحالة النفسيّة، وتلوين المَشاهد، والتمكّن من الأداة الشعوريّة والجسديّة. حتّى الإخفاقات أو نقاط الضعف هنا أو هناك تبدو موظّفة لمصلحة أسلوب مشهدي قادر على استيعابها.
«١٢ لبناني غاضب» مسرحيّة عن الرحمة، عن فلسفة البراءة، تقول إن كل سجين يمكنه أن ينخرط في المجتمع من جديد. مسرحيّة عن عظمة فنّ المسرح أيضاً. هذه التجربة الرائدة التي أطلقتها زينة دكّاش برعاية أوروبيّة، تتيح لمجموعة من «المجرمين» في نظر القانون (بعضهم محكوم بالمؤبّد أوحتّى بالإعدام)، مجالاً حقيقياً لمواجهة الآخر، وقبل ذلك مواجهة الذات وفهمها ومحاسبتها، ومراجعتها، وإعادة امتلاك أدوات التعبير واستعادة الحقّ في الكلام، واستخراج المشاعر المكبوتة، والأوجاع الكامنة في أعماق كلّ منهم.

سجن رومية (لبنان) الثالثة من بعد ظهر كل سبت حتّى آخر آذار (مارس) للاستعلام والحجز: 03/162573

تجربة أولى في الشرق الأوسط



التجربة المهمّة التي خاضتها الفنّانة زينة دكّاش (مؤسسة جمعيّة «كاثارسيس» للعلاج بالدراما)، بدعم من الاتحاد الأوروبي، ومن خلال وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة في لبنان، وبالاشتراك مع جمعيّة «عدل»، وبالتعاون مع وزارتي الداخليّة والعدل، لا ينبغي أن تخفي تقصير الحكومات اللبنانيّة المتلاحقة في مجال أنسنة السجون وتطويرها، ووضع سياسة عصريّة فعّالة، تتسع للثقافة والفنّ طريقاً لإعادة انخراط المحكومين في المجتمع المدني، علماً بأن تلك الخطوة التي ينبغي دعمها وتعميمها على السجون العربيّة، هي الأولى من نوعها في الشرق الأوسط، سبقتها تجربة رائدة في المغرب، وتحديداً في سجن «عكاشة» في الدار البيضاء، حيث أسس عبد المجيد بنسودة فرقة مسرحيّة تقتصر على المساجين من زملائه، وكان «القطار» (٢٠٠٦) هو العمل الثالث للفرقة، تخللته أغنيات قدّمتها الفنانة المعروفة حياة الإدريسي بصوتها، خصيصاً للمسرحيّة.
فنّانون بارزون وأطبّاء وباحثون ومربّون ومناضلون من أجل حقوق الإنسان عملوا، مع «المجانين» و«المجرمين» والمستبعدين والمقتلعين في مستشفيات الأمراض العقليّة والسجون ومدن الصفيح والمخيمات والضواحي المعزولة، على توظيف المسرح كأداة تحرّر، وفضاء يستعيد فيه الفرد إنسانيّته وكرامته، توازنه وحريّته، ويتطهّر من تلك الوحوش القابعة في أعماق كلّ منّا، أو يتمرّن ربّما على تدجينها وترويضها. لسنا بعيدين هنا عن احتفالات الزار والطقوس الأفريقيّة القديمة التي كانت تهدف إلى طرد الأرواح الشريرة.
يكفي أن نشير في هذا المجال إلى تجارب الفرنسي أرمان غاتي الذي عمل في السجون والمستشفيات النفسيّة، وجاءت إحدى أشهر مسرحيّاته بعنوان «معارك الليل والنهار» (١٩٨٩) مع نزلاء سجن «فلوري ميروجيس»، احتفاءً بالمئويّة الثانية للثورة الفرنسيّة. زينة دكّاش نفسها عملت مع جمعيّة «كارت بلانش» داخل سجن «فولتيرا» الإيطالي. وبين معلّمي المسرح، لا بدّ أيضاً من التوقّف مليّاً عند تجارب البرازيلي أوغوستو بوال مؤسس «مسرح المقهورين» الذي خاض تجارب مختلفة مع السجناء، وذهب أحياناً إلى إشراك السجّانين في الأعمال نفسها! ومن آخر التجارب العالميّة في هذا السياق مسرحيّة بول كلوديل المعروفة «الرأس الذهب» التي مثّلتها النجمة بياتريس دال مع مجموعة من سجناء «لا سانتيه» في فرنسا، من إخراج جيل بلانشار، وقد تحوّلت إلى شريط سينمائي في عام ٢٠٠٧.