الدراسات التي أضيفت إلى الطبعة الجديدة لم تغيّر شيئاً جوهريّاً في الكتاب المرجعي الذي صدر عام 1987 تحت عنوان «في القول الشعري». الناقدة والباحثة اللبنانية تواصل تعقّب الشعرية في النص العربي
حسين بن حمزة
لمن كانوا شغوفين بالشعر ويترقّبون مستجداته في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، مثَّل كتاب يمنى العيد «في القول الشعري» (دار توبقال ــــ 1987) واحدةً من اللحظات الفارقة التي احتفظوا بها في ذاكراتهم. صدور طبعته الثانية (دار الفارابي)، منقّحة ومزيدة، يُعيد إلى أذهاننا النضارة التي كُتبت بها مادة الكتاب، والجَرْس المحبب إلى عنوانه. ولعلّ بيننا مَن يتذكر النواة الأساسية لهذا الكتاب على صفحات مجلة «مواقف».
الفصول والدراسات المضافة إلى الطبعة الجديدة لم تغيّر جوهر الكتاب. لا تزال الشعرية مداره وبؤرته، ولا تزال صاحبته تطارد أشكال وكيفيات تحقق هذه الشعرية في النص الشعري العربي.
لكن ماذا نقصد بـ«نضارة» الكتاب؟ لا بدّ من القول إنّ هذه الصفة لا تنوجد فقط في لغة الكتاب وطرائق مناقشته لموضوع الشعرية، بل أيضاً ـــــ وهذا كان لافتاً وفيه قَدْرٌ من المجازفة التي يتجنبها النقاد عادةً ـــــ في النصوص الشعرية التي جيء بها كأمثلة تطبيقية طازجة، على أطروحة الكتاب الأساسية. الأرجح أنّها كانت سابقة نقدية أن يحضر شعراء كانوا قد أصدروا للتوّ مجموعاتهم الأولى والثانية، إلى جانب أقرانهم من روّاد الحداثة العربية ونجومها المكرّسين.
وزّعت صاحبة «في معرفة النص» الكتاب على ثلاثة أقسام رئيسة، فاحتفظ الأول بعنوان الطبعة السابقة، وأُطلق عنوان «الشعرية والمرجعية» على القسم الثاني الذي تعرَّض لبعض الحذف والتعديل، بينما جاء القسم الثالث، والمُضاف، تحت عنوان «الحداثة والقناع».
يصعب على قراءة سريعة أن تطاول محتويات الكتاب كلها، ولهذا لا بد من التركيز على عدد من النقاط والإشكاليات المحددة لمسار الجهد النقدي المبذول فيه. وهنا يبرز مفهوم «المرجعية الحية»، كإحدى أهم أطروحات الكتاب. لقد برعت يمنى العيد في ابتكار مصطلح جذاب وعميق وقادر، في الوقت نفسه، على تقديم سجال نقدي غايته خدمة النص الشعري من خلال الإصغاء إلى الدوافع الشعرية الموجودة في داخله، ثم مقارنة هذه الدوافع بمصادر الواقع و«مرجعياته». المرجع الحيّّ يستمد طاقته وحيوته من هذا المزج الطليعي والمنصف بين الشعر والواقع، مع انحياز واضح إلى الشعر. لكنّ المرجعية، بحسب الصيغة المقترحة، تثير تساؤلاً ملحّاً حول الجهاز الفكري والفلسفي الذي تنطلق منه. ويمتلك هذا التساؤل وجاهة أكثر في حالة يمنى العيد الآتية من تجربة طويلة في صفوف الحزب الشيوعي، والمعتقدات اليسارية عموماً. إذْ غالباً ما تعرَّض الشعر، والأدب عموماً، إلى مجازر نقدية على يد نقاد الواقعية الاشتراكيّة، وخصوصاً في نسختها السوفياتية الفقيرة. في شغل يمنى العيد، لا نجد إكراهاً وتعسّفاً بحقّ الشعر. الواقع بمعناه الإيديولوجي والسياسي يتوسَّع هنا، ملامساً الحياة نفسها بكل تناقضاتها. وتتوسَّع الممارسة النقدية، مازجةً المدارس والتيارات المتعددة والمتناقضة. المرجعية الحية تتحول ملاذاً نقدياً لكل ما هو حيّ وقابل للنمو والتطور في المرجعيات جميعها.
اللافت في كل هذا أن الواقع نفسه الذي لطالما ظُلم الشعر تحت يافطته الضيِّقة، هو الذي سهَّل على الناقدة المرموقة اشتقاق مصطلحها هذا. لا ننسى هنا أن مادة الكتاب تزامنت مع سنوات الحرب الأهلية وما تفرّع عنها من حروب عبثية لاحقة. ورغم أن لبنان كانت حصّته أقل من جَور النقد الواقعي، مقارنة مع سوريا ومصر والعراق، إلا أن الحرب حطمت الكثير من الأوهام التي أحاطت بالممارسة النقدية المحلية، بل وبالنص الإبداعي نفسه. أليس هذا، بين أسباب أخرى، ما جلب نصوص عباس بيضون وحسن عبد الله وإلياس لحود ومحمد العبد الله ومحمد علي شمس الدين لتكون شاهدةً على التغيرات التي لحقت بالشعر، جرّاء تزامنها مع الحرب، واحتكاكها بالنصوص الشعرية العربية المهاجرة إلى بيروت في تلك الحقبة؟ ألم يكن هذا دافعاً ليمنى العيد كي تعيد النظر في شعرية سعيد عقل المفخّمة، وتضيء مناطق معتمة عند الياس أبو شبكة، وتنتصر للتجارب الخارجة من أتون الحياة اليومية اللبنانية، وهو ما سيقودها لاحقاً لتناول شعراء أكثر شباباً ممن سُمُّوا «جيل الحرب».
بهذه الروحية، تقترب يمنى العيد من شعر خليل حاوي ومحمود درويش ونزيه أبو عفش وعبد العزيز المقالح وتجربة الحداثة في مجلة «الآداب» ونماذج شعرية عراقية... وهي تجارب عربية تضيف إلى نبرة يمنى العيد حيوية تتجاوز الإطار اللبناني.