فيلم ديفيد فينشر المقتبس عن قصّة لسكوت فيتزجيرالد، مرشّح لـ13 جائزة أوسكار. «الحالة الغريبة لبنجامين باتن» عن التحول العظيم الذي شهدته الولايات المتحدة بعد الحرب الأولى
أحمد الزعتري
نيو أورليانز، موطن الجاز عام 1860. بالتزامن مع ظهور جيل جديد مهجّن ومجبول من تقشّف الأجواء الكلاسيكيّة والتحرّر الذي جاء به عصر التحوّل الأميركيّ، يولد بنجامين باتن، طفل بمظهر وأعضاء وبنية بيولوجيّة لعجوز في الثمانين. تلك هي أجواء «الحالة الغريبة لبنجامين باتن» كما تتجسّد في قصّة قصيرة كتبها أف. سكوت فيتزجيرالد ضمن مجموعة «حكايات عن عصر الجاز» (1921)... فكيف تلقّفتها هوليوود؟
في نهاية الحرب العالميّة الأولى (1918)، يخترع ساعاتيّ كفيف ساعة تسير بالعكس، آملاً أن يعود كل الشباب الذين قُتلوا في الحرب. وفي هذه الأثناء يشهد صاحب مصنع أزرار حالة غريبة، إذ يولد طفله في مظهر عجوز. تموت الأم خلال الولادة، فيقرّر الوالد التخلّص من هذا الكائن المشوّه، مدفوعاً بشعور الانتقام والقرف. وبعد أن يلقي به أمام دار عجزة تتعلّق به موظفة سوداء في الدار وتتبنّاه، فيعيش الطفل على نحو طبيعيّ وعفوي.
تستند تقنية السرد في الفيلم إلى الفلاش باك. على فراش الموت في المستشفى، تستعيد ديزي ذكرياتها. تكشف المرأة العجوز عن قصة الفيلم كستار يُرفع بالتدريج، لنكتشف أنّ بنجامين هو زوج ديزي الذي يصغر كلما مرّ عليه الوقت.
السينمائي الهوليوودي ديفيد فينشر، صاحب الأفلام النوعيّة (Se7en، Fight Club، The Game)، يحوّر هنا في مسار القصة الأصليّة، فيجعلها قصّة حبٍّ تراجيديّة يحكمها البعد والهجران، بعد أن يتزوّج بنجامين وديزي إثر لقاء نموذجيّ في حفلة راقصة.
لكن فينشر نجح بالمحافظة على إيقاع الزمن البطيء الذي «يغلي» على نار هادئة طيلة الفيلم. شعور يحققه مسار الشريط، وحتى لكنة الأبطال الثقيلة، براد بيت (في دور بنجامين) وكايت بلانشيت (في دور ديزي). من خلال مشاهد طويلة وبطيئة، يكسر المخرج التقاليد الهوليووديّة المألوفة في مَنْتَجَة الفيلم. ما دفع النقّاد إلى الثناء عليه والمقارنة بين أسلوبه في التحكّم بالزمن السينمائي، وأدب بورخيس الذي يخيّم عليه ثقل الزمن أيضاً.
أما إريك روث كاتب «فورست غامب»، فوضع سيناريو هذا الفيلم الطويل (ساعتان و40 دقيقة) معيداً ترتيب القصة لتمسّ أحداثها شخصيات المجتمع النافرة حينها. إنّه يحمّل مسؤولية الأحداث ـــــ من حروب وتدهور أخلاقي وتفكك اجتماعي ـــــ للبشر لا القدر. وبذلك، يجاري روث فكرة فيتزجيرالد الأساسيّة: نقد المجتمع الأميركيّ ورصد التحول العظيم الذي شهده بعد الحرب العالميّة الأولى.
دعونا نراقب بنجامين المراهق بمظهره الستينيّ وهو يعمل على متن مركب صيد، يقابل الموت وجهاً لوجه خلال تعرّض المركب لهجوم من فرقة ألمانيّة، ثم ينخرط في علاقة مع امرأة متزوّجة من جاسوس بريطانيّ ساهم في هجوم بيرل هاربور. أمّا ديزي فتغدو راقصة محترفة في نيويورك، في إحالة لعصرنة المجتمع الأميركي. وبعد سنوات يلتقي الاثنان في منتصف العمر: هي الراقصة العصرية البوهيميّة والحداثيّة، وهو الغريب القادم من المستقبل بمواجهة تقدّم الزمن.
لن تخرج إعادة إنتاج تلك المرحلة من التاريخ الأميركي عما شهدناه في «فورست غامب»، من تقديم تحوّل اجتماعي كامل عبر تاريخ فرديّ لشخصيّة محكومة بمصير غرائبي. وإن كنّا نحاول ألا «نحرق» الفيلم لمن لم يشاهده بعد، لكن النهاية متوقّعة حقاً، فمن يولد عجوزاً فلا بد من أن يموت طفلاً. الفيلم مرُشّح لـ13 جائزة أوسكار. ولا بدّ من الاعتراف بأننا لا نفهم تماماً سبب الاحتفاء بـ The Curious Case of Benjamin Button، على حساب أفلام نوعيّة مثل Youth without Youth لفرنسيس فورد كوبولا، المقتبس عن رواية للروماني ميرسيا إلياد، عن عجوز يصاب بصاعقة فيعود شاباً. لكننا نحب بالطبع هذه الاختراقات على شاشة السينما، ونتسامح مع بعض هناتها.


ابتداءً من 19 شباط (فبراير) الحالي في صالات «غراند سينما» ــ 01/209109
www.grandcinemas.com/lb