مات في الشمال الذي «هاجر إليه» مثل بطله مصطفى سعيد. لكن موسم هجرته هو، طال حتى صار حياةً بأكملها. «طيّبنا الصالح» كما يسمّيه الناس في السودان، حيث منع عمله الأشهر خلال العقد الماضي، رحل في الثمانين، تاركاً ثلاث روايات ومجموعة قصصيّة يتيمة... وعدداً كبيراً من المقالات الصحافيّة والأدبيّة. الأدب العربي فقد بالأمس أحد أشهر رموزه في القرن العشرين

محمد شعير
بين ولادته منذ 80 عاماً في قرية كرمكول (إقليم مروى، شمالي السودان) حتى رحيله أمس في لندن، كتبَ الروائي السوداني الطيب صالح واحدة من أعظم الروايات العربيّة على الإطلاق... إنها سيرة حياة لم تتح لكثيرين: حبّ وترحال، معارك صاخبة، وصمت، سخرية من الواقع والأشياء، بل أحياناً من الذات، حتى ملأ الدنيا وشغل الناس مثل شاعره المفضل أبو الطيب المتنبي!
لم يحلم الطيب صالح بأن يكون أديباً، بل خطّط في طفولته لأن يعمل في الزراعة، لكنّه اكتشف أنّ ذلك «مجرد حلم رومانسي»، فهو لا يصلح لشيء سوى الكتابة. روائي من نوع خاص، ظلم الأدب العربي بكسله الشديد، مكتفياً بمجموعة قصصية يتيمة «دومة ود حامد»، وثلاث روايات: «عرس الزين»، و«بندر شاه» في جزءين: «ضو البيت» و«مريود» وطبعاً «موسم الهجرة إلى الشمال»، روايته الأكثر تأثيراً في الأدب العربي، والأشهر ــــ في العالم كلّه ــــ بين نتاجات الأدب العربي المعاصر. وقد جعله هذا الكسل مثاراً للوم المقربين منه، حتّى إنّهم كانوا ينادونه في ما بينهم بـ«زوربا السوداني» لأنّه اختار أن يعيش الحياة، لا أن يكتبها. منذ صدورها عن «دار العودة» في بيروت عام 1966، غطت شهرتها على أعماله الأخرى التي تلتها. حتى إنّه كرهها في سنواته الأخيرة، وكره مجرد الحديث عنها. تماماً مثلما غطّت شهرته هو على كتّاب السودان الآخرين، فلا يذكر هذا البلد إلا مقروناً بالطيب صالح.
لم تغب كرمكول عن ذهن الطيب. كانت تطارده أينما ذهب، يتذكّرها في صيف لندن عندما يتساقط المطر. في شبابه، انتقل لدراسة العلوم في جامعة الخرطوم، وبعدها سافر إلى إنكلترا ليواصل دراسته، ولكن في مجال آخر هو الشؤون الدولية.
بعد تخرّجه، تنقّل في مهن مختلفة: فترة قصيرة مدرّساً، ثم في القسم العربي لـ«هيئة الإذاعة البريطانية»، حيث ترقّى حتى وصل إلى منصب مدير قسم الدراما. بعد استقالته من «بي بي سي»، عاد إلى السودان وعمل فترةً في الإذاعة السودانية، ثم هاجر إلى قطر وعمل في وزارة إعلامها وكيلاً ومشرفاً على أجهزتها. عمل لاحقاً مديراً إقليمياً في منظمة الأونيسكو في باريس وممثّلاً لهذه المنظمة في الخليج العربي. حالة الترحال والتنقّل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب أكسبته خبرة واسعةً بأحوال الحياة والعالم، وأهمّ من ذلك أحوال أمته وقضاياها... وهو ما وظّفه في كتاباته وأعماله الروائية خصوصاً «موسم الهجرة إلى الشمال» التي كتبها في أوروبا، بين 1962 و1966، وذلك بعد محاولات عدة لكتابة الشعر.
مصطفى سعيد بطل الرواية أصبح من أشهر شخصيات الأدب العربي، شرقي نابغ يبحث عن ذاته في الغرب، يرفع شعار «جئتكم غازياً» وينتقم من غزاته بالجنس، حتى يقتل عشيقته جين موريس ويُحكم عليه بالسجن. لدى صدورها، ألقت الرواية حجراً في بركة راكدة، وعدّها ناقد مثل إدوارد سعيد أساساً لكتابه الهامّ في ما بعد «الاستشراق».
رأى بعضهم أنّ ثمة ملامح بين شخصية مصطفى سعيد والطيّب نفسه، لكنّه كان حريصاً طول الوقت على أن ينفي العلاقة. صحيح، كما يؤكد، «يمكن بعض الشخصيات أن يكون لها جذور في الواقع. وأنا كما أقول دائماً، أترك الواقع يتحول إلى حلم... أنسى حتى لو كان هناك شيء حقيقي قد حدث، أنسى مصدره فيتحوّل في الخيال إلى حلم ويخرج هكذا». وعندما نسأله: هل عشقت يوما إنكليزية؟ يجيب: «عشقتُ... لكنّها كانت اسكتلندية، تزوّجتها ولم أقتلها!».
لكن منذ سنوات فى إحدى ندوات الجامعة الأردنية، كشف الطيب سرّه الدفين: «جين موريس شخصية حقيقية لكنها ليست هي نفسها في الرواية. تعرفت عليها في الشهر الأول من وصولي إلى لندن عام 1953 في المتحف الوطني. جذابة حقاً. كان في المتحف آنذاك معرض عن الفن الانطباعي... تحدثنا وسألتني من أين أنا... وكنت في ذلك الحين فتى يافعاً، لا بد من أن تعترفوا بذلك... خرجنا من المعرض وذهبنا إلى مقهى وأمضينا بعض الوقت في الحديث عن أمور عامة، وبعد ذلك لم أرها قط، واسم الفتاة جين موريس، وقد أحببت ذلك الاسم. ومن ذلك اللقاء علق اسمها في ذاكرتي وأدخلته الرواية: الاسم وبعض الأمور الأخرى التي يعلم بها الله».
اختزال النقّاد له في هذه الرواية أصابه بالضيق الشديد. عندما سألناه منذ سنوات في القاهرة عن مسألة توقفه عن الأدب، احتدّ قليلاً: «لستُ حقلاً بوراً كما يتصوّرني النقاد». وبالفعل، إذ لم يتوقف صاحب «مريود» مطلقاً عن الكتابة. حاول في مقالاته الصحافية أن يجرّب أنماطاً جديدة من تجارب مختلفة: كتب في الرحلات وعن أشخاص التقاهم واقترب منهم مثل صديقه «المنسي» الذي عمل معه في إذاعة لندن. كذلك لم يلتفت كثيرون أيضاً إلى ما ترجمه الطيب من أعمال مثل كتاب «الاستعمار في الكونغو» التي اشتراها ملك بلجيكا، وأصبحت ملكه الخاص ولم تكن مستعمرة بالمعنى المتعارف عليه. كذلك ترجم أيضاً كتاب الفيلسوفة الشهيرة حنّة إرندت «أيخمان في القدس» وهي أعمال ربما منعه كسله، ورغبته في التجويد، من أن ينشرها في كتب.
ويبقى العنصر الثابت في كتابة الطيب صالح هو المكان، القرية التي ولد فيها بتحولاتها. كان يعتبر الكاتب مثل عالم الآثار: «نعيش على سطح آلاف السنين من التجارب الإنسانية». لذا مهمته أن يحفر في الأرض بحثاً عن أشياء مختلفة: قطعة في إناء، وعاء، وأشياء أخرى كثيرة... الكاتب مهمته أن يضع هذه الأشياء بعضها في جوار البعض الآخر، كي يرى ماذا سينتج. وفي «بندرشاه» التي أصدر منها جزءين وكان يتمنّى لو أنها وصلت إلى خمسة أجزاء، حاول أن يتقصى العلاقة بين المدينة (البندر) والحكم (الشاه)، لأنّ مشكلة المجتمعات العربية من وجهة نظرة تكمن في كيفية الحكّم في المدينة: كيف تحكم المدينة وعلاقة الحاكم بالمحكومين.
ظلت رواياته ممنوعة في الكثير من الدول العربية، ليس فقط لجرأتها، بل أيضاً لما تناولته من قضايا عن علاقات الحكم الملتبسة. وقد ظل ممنوعاً من دخول السودان لفترات طويلة، حتى صرّح منذ وقت قريب قائلاً: «كرهت السلطة في السودان منذ هذا العهد الأخير. كرهتها من حيث المبدأ لأنّني لا أحبّ النظم الدكتاتورية العسكرية، فكتبت عنها في البدايات. والحقيقة أنّني كتبت عنها وأنا بعيد عن السودان، أيّ إنني لم أقم بدور بطولي. وهم بادلوني الكراهية وهذا شيء طبيعي». أمس عندما رحل الطيب صالح، تذكّرت السلطة أنّها لديها كاتباً كبيراً مثله، وطلبت أن يدفن في السودان، وهو ما رفضته أسرته. ولم يُتَّفَق على شيء حتى لحظة كتابة هذه السطور: هل يعود الطيب إلى بلده ليُدفَن على ضفاف النيل، أم يبقى في«الشمال»، في المكان الذي عشقه ووهبه النذر الأكبر من حياته؟

الإنسان العذب



بهاء طاهر*
رحيل الطيّب صالح خسارةٌ كبيرة للثقافة العربية. عرفته مذ كان مذيعاً في BBC في لندن، وامتدّت علاقتي به حتى آخر زياراته القاهرة. كان إنساناً عذباً، وأعتقد أنّه كان يمتلك أصدقاء في كل بلد عربي بقدر أصدقائه في السودان، وأذكر أنّه كان عندما يحضر إلى القاهرة يلتف حوله أصدقاء بينهم الكاتب محمود سالم ورجاء النقّاش وغيرهما...
ومن غرائب المصادفات أنّنا خلال تأبين رجاء النقّاش الأسبوع الماضي في ذكرى رحيله الأولى، تردّد على ألسنة المتحدثين اسم الطيب صالح بسبب العلاقة الخاصة التي ربطت بين الكاتب والناقد. وقد كان للنقّاش فضل تعريف مصر والعالم العربي بأدب الطيب صالح الذي كان جديداً تماماً في حينه، وما زال مبهراً حتى الآن. فقد استطاع في كتاباته مثل «موسم الهجرة إلى الشمال» أن يجعل من الفولكلور السوداني إسهاماً أدبياً عالمياً، حيث أدمجه في رؤية فنية متقدّمة وعصريّة وبالغة الجمال. وقد كانت «دومة ود حامد» شيئاً جديداً في القصة العربية بسبب ذلك المذاق والنكهة المحلية والتاريخية والتعبير العصري في الوقت نفسه... كان الطيب صالح قادراً على اجتذاب الحب ممن يقتربون منه، لأنّه شديد العذوبة وتلقائي وساخر كبير، يبدأ بالسخرية من نفسه قبل الآخرين.
* روائي مصري

الرجل الذي فضّل الحياة على الكتابة



نجوان درويش
يثير رحيل الطيّب صالح جملةً من الأسئلة والتداعيات، بعضها متعلّق بموضوعات أثارتها أعماله القليلة وبقيت راهنة، كالاستعمار، والمواجهة بين الجنوب والشمال، وتخبّط «المثقف العالمثالثي» بينهما (موسم الهجرة إلى الشمال) وصولاً إلى تداعيات جانبية ـــــ نراها أساسية ـــــ عن فهم الطيب صالح لعلاقته مع الكتابة، وتفسير إنتاجه المتقطع القليل قياساً بسنوات عمره المديدة التي بلغت الثمانين.
إذا شئنا الصرامة، بمعزل عن ذيوع صيت «موسم الهجرة» منذ صدورها عام 1966، وما حققته من «شهرة عالمية» لصاحبها، يبدو الطيب صالح كاتباً هاوياً إلى حد بعيد، ورجلاً فضّل الحياة على الكتابة كما يقول في لقاءاته الصحافية، وحسم جدل ثنائية الحياة والكتابة لمصلحة الحياة والاستمتاع بها. وهو ما كان يردّ به على محاوريه الذين يثيرون معه مسألة انصرافه الطويل عن الكتابة وقلة إنتاجه. «بعض الناس يشعرون بأنّ قدرهم أن يكتبوا، وهؤلاء يضحون بأي شيء في سبيل الكتابة، أنا لا أريد أن أضحّي... إنني لا أكتب ليس لأنه ليس لديّ ما أود أن أقوله، بل لأنني لا أريد أن أستسلم تماماً لساحرات معبد الفن الشريرات». وفي حوار آخر: «لا أعتبر الكتابة موضوع حياة أو موت. نحن في هذا العالم لا لكي نصنع عوالم وهميّة فوق ورق أبيض».
تبدو ردود الطيب صالح دفاعاً يحجب وراءه أنّ الحياة الوظيفية الطويلة لموظف الـ«بي بي سي» ووزارة الإعلام القطرية ومبعوث الأونيسكو إلى الخليج قد امتصّت، مع حياته الاجتماعيّة، طاقة إبداعه وحوّلته إلى كاتب سابق في حياته، محصّناً بسمعته الأدبية، والاهتمام الذي حظيت به «موسم الهجرة..»
لم يمتهن الكتابة ولم يكرّس لها حياته. وبقليل من المغامرة يمكننا القول إنّه لم يكن روائياً بالمعنى الكامل للكلمة. تلك الكلمة التي يمكن أن تقال باطمئنان عن ماركيز وحتى عن نجيب محفوظ وتلك السلالة من الروائيين الذين كرّسوا حيواتهم للكتابة الروائية متحمّلين مسؤوليتهم ككتّاب تجاه النوع الأدبي. ولعلنا نثير هذه النقطة عند الطيب صالح لأنّها تنسحب على عشرات وربما مئات الروائيين والكتّاب والشعراء العرب الذين يتصورون أنّ الكتابة ممكنة بوصفها ملحقاً لحياة الكاتب وشاغلاً ضمن مشاغل أخرى.
بعيداً عن ذلك، يبدو الطيب صالح الآن شجرة أبنوس تعود إلى أرضها، نتعلّم من حياتها الطويلة بين الحركة والسكون، نتحدث عنها بثقة مفرطة، كأنّنا لا نقف تحت أغصانها!

كلّنا في الهمّ مصطفى سعيد



خليل صويلح
لعنة «موسم الهجرة إلى الشمال» لم تتوقّف إلى اليوم، كأنّ الروائي يكتب تميمةً واحدةً، كي تحميه من الزوال، ثم يطمئن إلى منجزه اللاحق. لعل هذه اللعنة أصابت الطيب صالح أكثر من غيره. ذلك أنّ رواياته الأخرى لم تتجاوز نصّه هذا على أهميتها. بطل روايته مصطفى سعيد بات اليوم رمزاً للعلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب. والمثير أنّ هذه الصورة لم تتغيّر كثيراً، بل ازدادت حضوراً في المخيال الروائي والنقدي العربيين، ففي المحصلة كلّنا في الهمّ مصطفى سعيد على تعدد أطيافنا ونظرتنا إلى الآخر.
صحيح أن الطيب صالح صمت باكراً، لكنّ هذا النص الاستثنائي سيبقى في واجهة المكتبة الروائية العربية بوصفه وشماً لا يُُمحى من الذاكرة.
هذه اللعنة أصابت كتّاب الرواية السودانيين أنفسهم، فهم شبه مجهولين، بعدما هيمنت هذه الرواية على ما عداها. ربما أنّ توقيت صدور الرواية (1966)، وضعها فوق رفّ خاص في المكتبة، بالإضافة إلى منعها في معظم العواصم العربية بسبب إيروتيكيتها الخشنة. لا شك في أنّ هذه الرواية تستحق أهمية خاصة، باعتبارها أول مادة خام عن الجنوب، هذا الجنوب المنسي والمجهول بكل طقوسه وخصوصيته وتقاليده، ثم إنّها من ضفة أخرى مسبار شرقي لسرد مضاد للثقافة للكولونيالية، وهذا ما جعل «موسم الهجرة إلى الشمال» إحدى مرجعيات إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» كمعادل لنص استعماري هو «قلب الظلام» لجوزيف كونراد.
لكن أين خصوصية الطيب صالح في تأصيل رواية عربية؟ لعل اعتماده طرائق السرد الشعبي وتشبعه للفولكلور المحلّي، هما من سمات اشتغالاته الروائية، كما في «بندر شاه» على نحو خاص، فهي بشكلٍ ما «ماكوندو» أخرى موازية لصنيع غابرييل غارسيا ماركيز في «مئة عام من العزلة»، بخلاف المكان والبيئة. ذلك أنّ تأكيده المحليّة أضفى على نصوصه نكهةً خاصةً وتوابل حرّيفة في كشف المستور، من دون إهمال مخزون ثقافي متراكم أتى من ثقافته الانكلوسكسونية. في «موسم الهجرة إلى الشمال»، تحضر ثنائيات لغويّة ومعرفيّة تنطوي على تضاد لوني صارخ يعتمد ثراء الأبيض والأسود، والظل والنور، في علاقة الشخصيات بعضها ببعض من جهة، وعلاقتها بجغرافيا سحرية وأسطورية من جهة ثانية. «عرس الزين» مثال حيوي وصادم على اشتباك السرد مع الواقعية السحرية في تجلياتها المحلّية الخالصة، واستنفار الحواس في الوصف والكشف والاختفاء.
الرائحة نفّاذة في حفريات الطيب صالح وهو يجوس عميقاً في فضح «صحراء الظمأ ومتاهة الرغائب الجنونية». المناخ الحلمي إذاً هو الوجه الآخر لما هو أسطوري، فيما ترتبك اللحظة الواقعية وتهتزّ وسط هذه المتاهة، في بحثٍ محموم عن ذات قلقة وضائعة ومرتبكة، ما انفكت تستنفر حواسها لتضيء أسباب العتمة والغياب والتيه.
يجد مصطفى سعيد نفسه أو أناه الضائعة، حين يلتقي إيزابيلا سيمور في علاقة غرامية، تتجاوز الشبق الشرقي إلى طمأنينة جذور بعيدة، تعيدها إلى لحظة فارقة. إذ يتخيّل أنّها حفيدة لجدّة أندلسية التقاها جدّه الجندي في جيش طارق بن زياد في أشبيلية، قبل أن يعود إلى بلاده. وفي مكانٍ آخر، يتحوّل إلى عطيل يقتل إحدى عشيقاته بسبب غيرته من جهة، وشذوذها المرَضي من جهة ثانية.
شكسبير ليس عابراً في نص الطيب صالح، بل هو مادة أساسية في ثقافة مصطفى سعيد. وفي المقلب الآخر يحضر أبو نواس كنصٍ شرقي موازٍ، وربما مضاد في تمثلات هذا الشرقي الحائر والمستبد لثقافة الآخر. هكذا يعود مصطفى سعيد أخيراً إلى مسقط رأسه، ليعيش حياةً مزدوجة، تنتهي بالموت أو الانتحار في نهر النيل. لعلّها لحظة تطهرية من آثام الغرب أو إعادة كتابة لتاريخ يبدأ من الصفر، ونظرة نوستاليجية لمكان وبيئة ونمط عيش من منظور مختلف يضع في الاعتبار الرائحة الأولى بوصلةً للحواس الأخرى.

سيرة



صاحب «موسم الهجرة إلى الشمال» التي اختيرت ضمن أفضل مئة رواية في التاريخ الإنساني، رحل أمس عن ثمانين عاماً في أحد مستشفيات لندن. إنّه الطيب صالح الذي وُلد في قرية كرمكول شمال السودان عام 1929. بعد دراسة في جامعة الخرطوم، غادر إلى بريطانيا في 1953 لمواصلة تحصيله الجامعي. وعمل في «هيئة الإذاعة البريطانية»، فصار مديراً لقسم الدراما. وعمل في وزارة الإعلام القطريّة، ثم مديراً إقليمياً في منظمة الأونيسكو.
يدين بشهرته لـ «موسم الهجرة إلى الشمال» التي بدأها خلال إجازة في الجنوب الفرنسي عام 1962، وانقطع عنها 4 سنوات، ثم أنجزها لتنشر في مجلّة «حوار» (1966). وأعيد نشرها في بيروت (دار العودة) والقاهرة (سلسلة «الهلال»). تتناول الرواية صراع الشرق والغرب، من خلال شخصيّة مصطفى سعيد أول مبعوث سوداني إلى لندن، يصبح محاضراً في العلوم الاقتصاديّة. ويبيع الأوهام اللذيذة عن الحياة على ضفاف النيل، مثبتاً فحولته مع نساء البلد الذي استعمره. ورغم الاحتفاء بروايته عربياً وعالمياً، فقد مُنع تداولها في السودان خلال تسعينيات القرن الماضي.
لم يكتب الطيّب صالح سوى ثلاث روايات هي «عرس الزين» (1964) التي نقلها المخرج الكويتي خالد الصدّيق إلى الشاشة (1977)، و«موسم الهجرة إلى الشمال»، و«بندر شاه» في جزءين: «ضو البيت» و«مريود» (1987)، إضافة إلى مجموعة قصصيّة «دومة ود حامد» (1984)، ومقالات صحافيّة نشرها «رياض الريّس» في خمسة أجزاء (2005). صدرت عن الطيّب صالح دراسات وكتب نقدية عدة، بينها «الطيب صالح عبقري الرواية العربية» (دار العودة) شارك فيه مجموعة نقاد بينهم محيي الدين صبحي ورجاء النقّاش وعلي الراعي... وخصّه أحمد بدوي بكتاب «الطيّب صالح، سيرة كاتب ونصّ» (الدار الثقافيّة للنشر، القاهرة). فاز في 2005 بجائزة «ملتقى القاهرة الثالث للإبداع الروائي». ورشّح مراراً لـ «نوبل» التي شبّهها بلعبة «يا ناصيب»