بيار أبي صعبفي السودان ذلك الوقت، كان من يمتلك حظ مواصلة الدراسة، يسعى إلى تخصّص «مفيد»: مهندساً زراعيّاً أو بيطريّاً مثلاً. كانوا 120 طالباً من كل البلاد مع الطيّب صالح في المرحلة الثانويّة، كما روى لنا مرّة، جالساً بزيّه التقليدي وعمامته البيضاء، وسط إحدى الحلقات التي تمتاز بها «أصيلة» المغربيّة. لكنّ الأدب كان قدره. حين وصل إلى لندن في شباط (فبراير) 1953 ليتخصص في «الشؤون الدوليّة»، كانت المدينة تشهد واحداً من أفظع شتاءاتها. تحت وطأة الحنين كتب قصّة بعنوان «نخلة على الجدول» (ضمّنها لاحقاً مجموعة «دومة ود حامد»). بدأت الكتابة محاولة لاستعادة المكان الأوّل... وستبقى كذلك على امتداد مسيرته الإبداعيّة. قامت على ثنائيّة أرض الجذور وأرض التبنّي، على مواجهة بين شرق وغرب. إنّه «صراع الحضارات» الذي تناوله قبل صموئيل هنتنغتون بزمن طويل، بعدما أخرج للـBBC أعمالاً دراميّة بينها «الملك لير» من بطولة يوسف وهبي وأمينة رزق. المواجهة تجلّت في هذا المزيج اللافت بين الموروث التقليدي بناسه وإيقاعه ولغته وعوالمه، والتجريب الذي يحتلّ موقعاً مركزيّاً في كتابة الطيّب صالح.
من هنا إن مصطفى سعيد، البطل السلبي بامتياز لـ«موسم الهجرة»، إدانة للوعي العربي في أحد جوانبه الأساسيّة. جاء الغرب غازياً، منتقماً من المستعمر بـ«غزو نسائه». بقي أسيراً لما يعتبره نظرة الغرب إليه، فلم يستطع أن يتعاطى معه خارج إطار علاقة سادو ـــــ مازوشيّة مدمّرة. الطيّب صالح ما زال راهناً في التعبير عن أزمة النخبة العربيّة، هو الذي اختار لبطله أن يعود إلى القرية البعيدة، ويتلاشى في نيلها الأزلي. ربّما... على أمل بداية جديدة.