بيار أبي صعب
شاعر آخر ينسحب، بعدما أطال الوقوف على أطلال ذاته. بسّام حجّار شاعر خافت مقتضب وخفيف، هوائي في ذروة ألمه وامّحائه. «كانت تحدّق في المكان البعيد/ كأنّها تراني/ وكنت أعرف أنّي، هناك/ في المكان البعيد،/ حيث تراني». تخاله لبس طاقيّة الإخفاء من زمن بعيد. بلوريّاً شفيفاً يستعيد المشاهد الهاربة نفسها، والحيوات الضائعة، على المسرح نفسه، مع الأطياف نفسها، في الديكور الأليف المحصّن بالظلال. يساكن الخسارة والفقد والغياب، وحده صامتاً كنبيّ. في عزلة الغرف الداخليّة، مع الأدوات والأكسسوارات التي تنقلب وظائفها داخل معادلة شعريّة مكثّفة ومختزلة... إنها قطع من حياة ممكنة، داخل القصيدة تعيش تحوّلاتها السحريّة، وسط تشابك الأزمنة وتقاطع الحكايات والتداعيات. «أتبصر شرفةً مضاءة؟/ إنّها قلبي/ أيّها الغريب!». أوائل الثمانينيات، في مقهى «الإكسبرس»... كان بسّام يبدو للطالب الخجول الهائم على «رصيف بيروت» كأنّه حقّق كلّ شيء... يعمل في «النداء» ويكتب قصيدة النثر. ماذا يمكن أن يطلب المرء أكثر من ذلك؟ تحت سماء بيروت كانت الحياة جميلة وممكنة. بعدها بسنوات وانهيارات ومآتم، صار يكتب مقالات سياسيّة لا أقرأها... لكن تلك القصيدة بقيت على بهائها، صارت كلّ شيء. صار الشاعر يقيم فيها. «سألت الرجل الذي كنته قبل عام لمَ لا أراني بينهم». نحن نراه، أكثر من أي وقت. نبحث في شعره عن ذواتنا الهاربة، عن موتنا الحميم كاستراحة ممكنة. نستعيد عنوان الأنطولوجيا الشعريّة التي صدرت له في القاهرة قبل سنوات عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة»، لنقول للشاعر الذي مضى على رؤوس أصابعه في الرابعة والخمسين: «سوف تحيا من بعدنا»...