بيار أبي صعبسنتان فترة قصيرة جداً. سنتان؟ عمر كامل. كم من الحروب والمجازر، من المواجهات والامتحانات الصعبة! من محطات الصمت والوحدة واليأس والإحباط، من انتفاضات الأمل والفرح بالحياة أيضاً. كم من السهرات الخاوية، والمواعيد المؤجّلة، وليالي الأرق، والتساؤلات التي تنتظر من يجيب عنها... كم من الأحداث والمفاجآت والتحوّلات التي تحتاج إلى من يرصدها، ويخضعها للنقد والتحليل، ويستشرف انطلاقاً منها ملامح المستقبل. حتّى الماضي ماثل هنا كاليتيم، ينتظر من يرعاه وينادمه. كم من المسائل المعلّقة التي تقضّ مضجع كثيرين بيننا، كان من الممكن للغائب الأكبر أن يساهم في مناقشتها، في اقتراح مشاريع معالجة ممكنة. لا يعرف المرء قيمة الأشياء إلا حين يفقدها. الفقد سرّ الوجود.
كأنّها البارحة فعلاً. اتصال مختصر مع لندن غيّر كلّ شيء. كيف مرّت تلك الأيام والأسابيع والأشهر والفصول على غفلة منا؟ إنّه سرّ المنخرطين في سباق المسافات الطويلة. هؤلاء لديهم إجمالاً علاقة أخرى بالزمن. من أرض المعركة يكون العالم مختلفاً. لذلك، ربّما، لم نعش حدادنا كالآخرين. لذلك تبدو الحدود واهية بين حضور وغياب، تذكّر ونسيان. لكن سنتان، هذا كثير حقاً. كان لا بدّ من تاريخ محدد ـــــ الخامس والعشرين من شباط/ فبراير البائس واللئيم ـــــ كي ننتبه فجأة. سنتان، عمر كامل! جردة الحساب تؤكّد ذلك: كل الذي تغيّر، الخيبات التي لا حصر لها، الذين ذهبوا والذين جاؤوا مكانهم. ونحن الذين شخنا، شخنا كثيراً، عنّا وعنه... وجوزف في زاويته المعتادة يكثر من التدخين، يسند السيجارة المشتعلة بين العلبة وحرف المنفضة في وضعيّة أفقيّة. جوزف في مكان حميم من وجداننا الجماعي، ملفّعاً بالعدم، ينظر في اتجاهنا، أو هذا ما يخيّل إلينا بسبب تلك الصورة الكبيرة، ربّما، على جدارين متواجهين في مقرّ الجريدة. هو وحده لم يتغيّر تماماً. لقد تركنا مقعداً فارغاً في سهرات الطرب والأنس الآتية، لعلّ وعسى.
منذ رحل المارد الساخر في رقاده، ولمّا يتعب من التفكير والنقد والثورة العقلانيّة الهادئة، ونحن نطرح على أنفسنا السؤال المحيّر نفسه: كيف للرحلة أن تستمرّ من دون الأب المؤسس؟ وكل يوم نفاجأ بقوّة دفع جديدة، حتى في لحظات الشك والتردد والحيرة. كل يوم يأتي ما يؤكّد لنا أنّ التراجع غير وارد. التركة ثمينة، وفريدة، فكيف تبقى الساحة الفكريّة تحت رحمة الكتبة والسماسرة وأهل الانحطاط على أشكالهم؟ إنّهم يحدثون جلبة ناشزة، يلوّثون الكون، وأحياناً يأتون متنكرين خلف أقنعة عصريّة، لكن أذيالهم تتدلّى من الخلف. ليس هناك من وقت للحنين، لتصنيم الماضي، فالمعركة في بدايتها. نعم معركة، بالمعنى السلمي الأسمى، من أجل التقدّم والعدالة، من أجل التحرّر. من أجل التغيير. من أجل أن تعود الأوطان إلى أصحابها، وتستردّ الكلمات جوهرها ومعناها الحقيقي، في زمن الكذب والتزوير والعهر السياسي... حين يستبسل شهود الزور والمرتزقة دفاعاً عن «الحريّة».
نحن الذين عرفنا جوزف سماحة عن قرب، في مختلف مراحل مسيرته الاستثنائيّة، قد لا يكون لنا أي فضل في مواصلة الرحلة. زميلاتنا وزملاؤنا الأصغر سنّاً لا يتركون لنا خياراً. هؤلاء وصلوا متأخرين، لكنّهم يعرفونه خيراً منّا، يتمسّكون بأفكاره التقدّميّة والعروبيّة والتنويريّة والممانِعة، أكثر منّا أيضاً... في زمن العلمانيّة الشيك، واليسار الشيك، والديموقراطيّة الشيك، والوطنيّة الأشيك! يتمسّكون بميراثه ومشروعه واسمه ورهاناته الجريئة والمركّبة. لنستمع إليهم يكتبون لجوزف وعنه في ذكراه الثانية. لنترك جيل سماحة الثالث يدلّنا على الطريق.