strong>مهى زراقطلو كان جوزف سماحة حياً، ربما لكان قد أضاف إلى عبارة «بالمعنى النبيل» (في العنوان أعلاه) كلمة «والوحيد». نفترض قيامه بهذه الإضافة لأنها كانت تلفتنا، كما كلّ قارئ لسماحة، صفة «النبيل» التي تمثّل واحدة من مفرداته الخاصة، يضعها بعد كلّ مصطلح ضاعت معاييره في زمننا، ولا سيّما لدى الحديث عن السياسة. فقد كان، عندما يكتب المفردة الأخيرة، (السياسة)، يُلحقها دائماً بعبارة (بمعناها النبيل).
في مرحلة سابقة كان يضيف إليها بين قوسين عبارة (والوحيد للكلمة). لكنه قد يكون توقف عن فعل ذلك بعدما يئس من التذكير بوجود معنى واحد، نبيل، للعمل السياسي... أو أنه اقتنع فعلاً بأن هذا النبل يمكن أن يُطبّق في دولة، لا في «مزرعة»، كما خلص إلى توصيف لبنان بجمهوريته الثانية، وذلك بعد سنوات من الحديث عمّا كانت لتكون عليه الأمور «لو أننا نعيش في بلد يحترم نفسه».
في افتتاحية العدد الأول من «الأخبار» بإصدارها الجديد، 14 آب/ أغسطس 2006، أضاف سماحة مفردته، «النبيل»، إلى «وظيفة الإعلام». لم تكن هذه الإضافة لتمرّ مرور الكرام على قرّائه الذين انتظروا إطلالته عبر «الأخبار»، وعاشوا مرحلة انقطاعه عن الكتابة، خلال مرحلة التأسيس للجريدة، في عزّ حاجتهم إليه، أي خلال حرب تموز. كان يجب التوقف عند صفة «النبيل» تضاف هذه المرة إلى وظيفة الإعلام، لكي يكون لـ«الأخبار» معنى. أصلاً، لم تكن «الأخبار» لتولَد لو لم تكن معايير هذه المهنة قد تردّت إلى حدّ بات فيه من الضروري تقديم نموذج جديد للإعلام، كما يراه أحد أبرز مجدّدي الصحافة اللبنانية: جوزف سماحة.
في تلك الافتتاحية، أعلن سماحة انتماءَين لـ«الأخبار»: سياسي ومهني. في الأوّل، تضع الجريدة نفسها في معسكر رافضي الهيمنة، وهو معسكر يمتد، حسب سماحة، «من قلب الولايات المتحدة الأميركية إلى أقاصي الشرق وأفريقيا وأميركا الجنوبية وأوروبا». أما انتماؤها المهني، فهو «معسكر الحرص على التعدّدية والديموقراطية والموضوعية والحداثة والثقافة الإبداعية».
لكن كيف يمكن أن يتفق هذان الانتماءَان؟ سؤال بالغ الصعوبة، وخصوصاً إذا انطلقنا في محاولة الإجابة عنه من المقاييس الجديدة التي تضع معسكر رفض الهيمنة على طرف النقيض مع معسكر الحرص على التعدّدية والديموقراطية والموضوعية...
يحتاج الأمر إلى صحافي، بالمعنى الوحيد للكلمة، ليرسم خارطة طريق توصل إلى حلّ هذه المعادلة، أو «المغامرة المحسوبة» كما سمّاها سماحة. يحتاج الأمر إلى صحافيّ مثل جوزف سماحة، المفكّر والمثقّف... وقبل هذا كلّه النبيل.

■ ■ ■


نبدأ من الصفة الأخيرة، النبل.
منذ رحيل سماحة، قبل عامين، كتب أصدقاؤه الكثير عن صفاته من خلال استعراض مواقفه الفروسية معهم. لكن نبل الرجل يتخطى علاقاته الإنسانية إلى حيّز أوسع، بحيث لا تقتصر هذه الصفة على المقرّبين منه، بقدر ما تمثّل همّاً إنسانياً يتحكّم فيه. لذلك لا يبدو مبالغة القول إن مقالاته كانت منحازة دائماً إلى المواطنين، حتى عندما عاب عليه كثيرون ما سمّوه خطاباً حاداً اعتمده في مقالاته الأخيرة في «الأخبار».
كلّنا يعرف أن «الأخبار»، كانت عرضة لكثير من الاتهامات والانتقادات؛ والأخيرة، حين أصابت سماحة، شكّكت في موضوعيته بسبب اعتماده هذا الخطاب الحادّ. بعضهم وصف الأمر بالإيجابي، وقال إن سماحة تحرّر أخيراً من كلّ المحظورات التي كانت تحاصره في المؤسسات التي عمل فيها. وبعضهم قال إن حاجة «الأخبار» إلى رسم خط لها، هي التي دفعت سماحة إلى التخلي عن موضوعيته ورصانته، ودفعته إلى مقاربة الأمور بأسلوب فجّ استدراجاً للجمهور. لكن ما لم يلتفت إليه الطرفان، أن سماحة لم يكن في افتتاحياته الأخيرة في «الأخبار» يكتب إلّا ما عوّد قرّاءه إياه من مطالبته بحقوقهم وتوعيتهم عليها. همّ واحد كان يحكم نصوصه: بناء الإنسان، مواطناً وحاكماً. والمقاربة التي تحكم أيّ موضوع هي المقاربة الأخلاقية، هو الذي كان يكرّر كلّما تطرّق إلى ملف إنساني وطريقة إدارة السلطة له: «هذه قاعدة أخلاقية عامة» يكتب حيناً، وتكاد تسمعه يصرخ حينا آخر: «ليست هذه مقاربة أخلاقية علماً أن في وسعها أن تكون كذلك». ومن هنا كان يمكن ملاحظة أن كلّ موضوع كان يتطرّق إليه سماحة، لم يكن ليخلو من حدة في اللغة. منذ التسعينيات كنا نقرأه يكتب التالي: «من يرتضِ هذا الوضع فليس جديراً بأن يتحكم في مصائر مواطنين يفترض، من حيث المبدأ، أنهم يدفعون راتبه».
لقد بقي سماحة مصرّاً، عند كل حادث لا أخلاقي، على أن يصفه باللاأخلاقي. هكذا بكل وضوح، حتى عندما «يصعب تصديق ذلك»، عبارته التي كرّرها مراراً في مقالة له عن معتقلين سابقين في السجون الإسرائيلية كانوا ينوون الاعتصام ليطالبوا السلطة بتأمين عمل لهم. (رغم أنه، في ذلك الزمن، وهذا الزمن للأسف، كان يسهل تصديق ذلك). نقرأ: «يصعب تصديق ذلك... ولكن لا بديل عن تحمّل هذه الحقيقة الصافعة. مقاومو الأمس، العاطلون من العمل اليوم، وخريجو سجون الاحتلال وعملائه، لا يريدون منحة، أو صدقة، أو صندوق دعم، أو تعويضاً، إلخ... يريدون، فحسب، عملاً يؤدونه في مقابل أجر لائق. وإذا كان هذا أبسط حقوق المواطن على دولته فكيف إذا كان المواطن المعني قد ساهم، إلى هذا الحد، في إعطاء دولته معنى». يضيف سماحة، بسخرية إن هؤلاء المقاومين الذين يبحثون عن عمل، على اختلاف انتماءاتهم «يلتقون عند قاسم مشترك واحد يكاد يدفعهم إلى إنشاء نقابة من نوع خاص، نقابة العاطلين من العمل المتحدّرين من أصل مقاوم!».
هل تختلف حدّة هذه المقالة عن غيرها مما كتبه سماحة في «الأخبار»، (ونقدّم مثلاً فضيحة الشاي في مرجعيون)، إلا في فداحة الحدث الذي استدعى الكتابة عنه؟ يحمل هذا السؤال إجابته الضمنية، لذلك يصبّ طرحه هنا في خانة التوطئة للإضاءة على صفة ثانية من صفات سماحة الصحافي، وهي المفكّر. الرجل، الذي قدّم منتصف التسعينيات قراءة أخلاقية للجمهورية الثانية في كتابه الصغير «قضاء لا قدر»، كان يقدّم أيضاً مقاربة فكرية تشرّح ظاهرة وصول الرئيس الراحل رفيق الحريري إلى السلطة في لبنان الخارج من الحرب الأهلية.

■ ■ ■


لم تكن «معالجة» جوزف سماحة، كما وصف كتابه «قضاء لا قدر»، أول ما كتبه عن رفيق الحريري. في تموز 1993، كان لا يزال يعمل في «الحياة» حين كتب سلسلة مقالات تحت عنوان «محاولة اقتراب من الرجل الأوّل في الجمهورية اللبنانية الثانية».
آنذاك، كان ثمّة حدث يحصل في لبنان، على حدّ تعبير سماحة، عنوانه العام رفيق الحريري. هذا الحدث كان يستدعي زيارة لبنان والبحث عن «وعي شقيّ» للظاهرة. أجرى سماحة عشرات اللقاءات ليتوصل إلى تقديم ما سمّاه هو، تعرّفاً إلى العناوين العامة لمشروع الحريري، فيما ستكشف قراءة المقالات أن سماحة في محاولة التعرّف هذه، إنما قدّم تحليلاً علمياً لظاهرة الحريري نقرأ مثله في كتب تصدر اليوم (بعد مرور 15 عاماً) عن شخصيات سياسية مثل سيلفيو برلسكوني في إيطاليا أو نيكولا ساركوزي في فرنسا، إذ لا تختلف قراءة سماحة للظاهرة عن التوصيف العلمي للشكل الجديد من الممارسة السياسية الذي يتّبعه هؤلاء.
يبدأ سماحة مقالته بوصف ابتسامة الحريري، التي تتحوّل إلى ضحكة عندما يتعرّض لانتقادات خفيفة. ليست ملاحظة عابرة أن تكون الابتسامة مدخل سماحة إلى اكتشاف الرجل، وخصوصاً بعد أن يقرأ أحدنا دراسات جديدة عن الابتسامة و«المصنع» الذي تخرج منه، لتمثّل واحدة من أبرز صفات الرجل السياسي الجديد في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات: السياسي الجديد هو الذي يستعير من مقدّمي البرامج التلفزيونية ابتساماتهم، كواحدة من مستلزمات مسرحة العمل السياسي، بعد تراجع دور الدولة.
كان طبيعياً في لبنان الخارج من الحرب، أن يكون رفيق الحريري، نقتبس سماحة: «أقوى من سائر الزعماء اللبنانيين فرداً فرداً. وليس سراً أيضاً، أنه منذ تسلّم الحكم وهو يحاول أن يكون وحده، أقوى من الطبقة السياسية اللبنانية كلها. وهو في مسعاه هذا، يتسلّح بدأبه على العمل، وبثروته وعلاقاته العربية والدولية وفرق العمل التي تحيط به. إنه مؤسسة لم يعتدها اللبنانيون ولم يسبق لرئيس حكومة، تحديداً أن شكّلها ولا يفيد في ذلك القول إن الحريري يشتري الولاء». التفسير الذي يقدّمه سماحة، هو إدراك الحريري «أن في وسعه إذا حكم، أن يحتلّ القسم الأكبر من المخيلة الشعبية ويطرد منها مثالاتها القديمة». يحكم الحريري إذاً من خلال بيع الأحلام لمواطنيه، وهو الذي نجح في «صبّ الزيت في مخيّلة اللبنانيين التي اشتغلت بملء طاقتها وتعزّز ذلك من حاجتهم إلى أحلام جميلة تؤكد لهم الخروج من كوابيس الحرب».
هذه أيضاً واحدة من صفات العمل السياسي الجديد الذي لا يقوم على برنامج عمل بل يكتفي بتغذية المخيلة الشعبية بالأحلام، أو زرعها بالخوف. في الحالتين يجب كسب ولاء المواطنين... والسياسيين. نعم السياسيون، وهنا يكون مذهلاً جوزف سماحة حين يكتب أن حلفاء الحريري حين يدافعون عنه فهم يفعلون ذلك «لأن لا بديل عنه» فيما يكون الحريري نفسه «أكثر المدافعين عن الحريري. يعرف تسويق نفسه. يريد لمشروعه أن يكون خياراً حراً لا مجرد منع للأسوأ. ويضفي على عرضه لخياراته حرارة يفتقدها سياسيون لبنانيون كثيرون إذ يصبح الخطر، عند أي لقاء معه، إصابة المرء بـ«عدوى التفاؤل» التي ينجح في تمريرها».
لا يكتفي سماحة بتشريح الظاهرة، بل يتنبأ بما قد تنتجه. يكتب: «لقد وصل الحريري إلى السلطة ممثلاً لرأسمالية ذات عمق شعبي... أي لرأسمالية تتقاطع مصالحها مع مصالح وطنية عامة. غير أنه اصطدم غير مرة بقطاعات كان يمكنها أن تمثّل قاعدته الاجتماعية أو على الأقلّ حليفه الاجتماعي: أساتذة التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية، القضاة، الحركة النقابية، وحصل ذلك في ظلّ شك لبناني متزايد في «وطنية الأثرياء». يصعب الحديث، اليوم، عن «فرط العقد الاجتماعي» لكن ثمة مؤشرات تقول «إن المشروع العام يحمل بذرة انحراف قد تقود إلى تراجع التماهي بين نجاحه وبين مصالح فئات لبنانية واسعة».
طبعاً، كان يمكن القول إن هذه القراءة ضبابية، وخصوصاً أنها تأتي في بدايات العمل السياسي للحريري. لكن بعد ثلاث سنوات، اتضحت الرؤية. حكمت الترويكا وفقاً لمنطق المحاصصة وقمع الحريات، بالتزامن مع انطلاق عمل شركة سوليدير. في هذا الوقت، يقع حادث صغير في أحد مباني بيروت: يموت السينمائي مارون بغدادي، ولا يستطيع سماحة إلا أن يجد في وفاته (بسبب انقطاع الكهرباء!) فضيحة أخلاقية تكشف سلوك السلطة في الجمهورية الثانية، وتدفعه إلى كتابة «قضاء لا قدر» الذي عرض فيه لـ«سمة من سمات السلطة الجديدة التي تفرض انقلاباً كاملاً في الصلة بين الحاكم والمواطن. لا يرى الأوّل أنه مطالب بتأدية الحساب حيال الثاني ما دام يدفع له من حسابه. ليس المسؤول هو الذي يقبض مرتّبه من المواطن بل هذا الأخير هو الذي يعدُ نفسه بأن تعمّه نعمة الحاكم».
يسير سماحة، في قراءته هذه، قدماً في تحليل ظاهرة الحريري كسياسي يعدّ وجوده في السلطة منّة منه على شعبه. ليس هذا السلوك إلا أحد مظاهر إدارة الدولة كشركة. نقرأ: «الصلة مباشرة بين هذا الفهم للسلطة، وبين عقلية القطاع الخاصّ. الحكم التزام والمهمّ فيه الانضباط في المواعيد. تسليم وتسلّم: نتسلّم الحكم ونسلّم مشاريع. في غضون ذلك لا مكان للاعتراض. من يستطيع محاسبة مدير شركة على كيفية إدارة مؤسسته؟ إنه حرّ (...)، هذه رأسمالية متخلّفة عدا عن أنها وحشية لأنها لا تراكم خبرات ولا تنتج ثروات». ويمكن من خلال تتبع مقالاته حتى عام 2006، القول إنها تنتج «مزرعة... سُمّيت تجاوزاً دولة».
هذا العرض المختصر لمقالات سماحة، المتعلقة بجانب واحد من اهتماماته، ليس إلا محاولة للتعريف بنوع خاص من الصحافيين الذين ارتقوا بالمهنة من خلال همّ واحد رافقهم في عملهم: احترام القارئ والارتقاء بوعيه. إنه عمل لا يتقن القيام به إلا صحافي... بالمعنى النبيل للكلمة.