سناء الخوريلم يكن تعلّقي بافتتاحية جوزف سماحة اليومية، عادة. عادات أخرى كانت تتحكم بيومياتي. أستيقظ كل صباح كالعادة، أنا ابنة جيل ما بعد الحرب، أذهب إلى جامعة أكلتها حربٌ لم أشهد منها إلا أثرها. كل ما حولي مزيّف وعادي. أحببت، كعادة مَن هم في عمري، شعارات سياسيّة. كنت أعتقد أنني سوف أحرر فلسطين يوماً ما. آمنت بالتغيير، وآمنت به بورع. اليوميات السياسية، في هذا البلد، جعلت حبي وإيماني، عادات. بصراحة، ضجرت بسرعة من «التركيبة العجيبة»، لم أعد أجد فيها ما يغريني. اعتدتها كثيراً.
لم يكن تعلّقي بافتتاحية جوزف سماحة اليومية، عادة.
لم ألتقِ الرجل يوماً. كلُّ ما عرفته من جوزف سماحة، الشخص، كان ذلك التوقيع تحت كلمة «الآن هنا» في جريدة «السفير»، ثمّ تحت كلمة «خط أحمر»، في جريدته «الأخبار». كنت أتمسّك بمقاله كخشبة خلاص تردعني عن الغوص أكثر في «العادي». ما كتبه هو «الاستثنائي» الوحيد في كلِّ ما قدَّمته لي السياسة من فتات يومي. لم أبحث في مقاله عن الرأي فقط، بل كان يغريني المنطق خلف ذلك الرأي، المعلومة التي لن أحصل عليها من مكان آخر. أتذكّر مقالاته في بعض المراحل المفصليّة. أتذكّر حين فنّد الاتفاقيات التي وقّعها «حلف شمالي الأطلسي ــــ الناتو» مع الدول التي تطوّعت في «اليونيفيل» بعد حرب تمّوز. كتب عن تواريخ تلك الاتفاقيات ومضمونها، أتذكرون؟ وحين زار إليوت أبرامز بيروت منذ أربع سنوات إثر اغتيال الحريري والتطورات التي تلت الجريمة، كتب في «السفير» يخبرنا من هو إليوت أبرامز! فرحت يومها. صرت أعرف نيّات أبرامز من وراء زيارته إلى لبنان. قالها لي جوزف. أتذكّر عندما كتب عن حرب في قرغيزستان. لم أكن أعرف أنّ هناك بلداً اسمه قرغيزستان. قلت في نفسي يومها: «هذا الرجل موسوعة». لم أرَ «الاستثنائي» في مقالاته من ناحية مهنيّة، بل من ناحية شخصيّة محض. كنت أتخيَّل، وأنا أحمل الجريدة من المكتبة إلى الصف، ثمّ إلى المنزل، وأعيدُ قراءة الافتتاحية مرات عدة، أنّ جوزف كتبها لي خصّيصاً. خلف الكلمات، كنت أرى منهجيّة في قولها، تحترم عقل القارئ وقدرته على المحاسبة، ورغبةً لطيفة في الإقناع فيها الكثير من التسامح تجاه الرأي الآخر. كرهت «كليشيه الرأي الآخر» ومرادفاته السياسيّة اللبنانيّة، وأدمنته، حصراً، في مقالات سماحة. لم أحفظ يوماً تعريف «الديالكتيك» من الكتب، واستمتعت بقراءة تطبيقه «السماحي» على القضايا اليومية.
ولكن أليست تلك ذروة المهنيّة؟ حين يجعل صحافي من مقالته اليوميّة حدثاً بهذه الاستثنائية؟ أليست ذروة المهنيّة حين يفرض صحافي على القارئ أن يصبح معنيّاً بمقال، بهذا القدر من الذاتيّة؟ أليست ذروة المهنيّة حين يؤثّر صحافي في تشكيل رأي فتاة من جيلي، إلى درجة أصبحت تحلم فيها بالانضمام إلى حزب يؤسّسه جوزف سماحة؟ أليست ذروة المهنيّة حين يكفي قلم كي تتحوّل أحلام التغيير والتحرير، العاديّة اليوميّة، إلى ممكن؟
في اليوم الذي فهمت فيه سطوة القلم هذه، حلمت أن أكون صحافيّة.
رأيت جوزف للمرّة الأولى في مثل هذا اليوم منذ سنتين، على الصفحة الأولى من هذه الجريدة. انهالت على رأسي مقالات الوداع. قرأت فيها عن الرجل الذي كان يوقّع إمضائي المفضّل. تنبّهت إلى أنّ جوزف سماحة إنسان، له حياةٌ يوميّة وعاديّة خارج المقالات التي عرفناه من خلالها. حياةٌ كان فيها صديقاً ومعلّماً ورئيس تحرير استثنائياً. يومها، عرفت أنني خسرت الجزء الاستثنائي الوحيد في يومياتي، وغبطت جميع من عرفوه. أخشى أن أسأل عنه من أصبحت زميلتهم في جريدة سماحة. أخشى إدخاله في الأحاديث اليوميّة. أحاول أن أصطاد من هذا أو ذاك شيئاً كان يفعله سماحة، أو كلمةً قالها. اليوم، وأنا أجلس على مكتبي في جريدته، أعيش ضخامة إنجازه، أدرك أكثر موقع الاستثناء فيه. رجل من جيل الهزيمة الأولى، علّم جيلي معنى الأمل.
عندما أتعب من العمل اليومي، أتخيّله يتمشّى في ممرّ الجريدة، في جولته المسائية التي أخبروني عنها هنا. أستجمع طاقتي، أفكر بمن يعلمونني اليوم أسرار المهنة من زملائه وأصدقائه، وأقول لنفسي: المهمّة استثنائيّة، لا مجال لجهد عاديّ هنا.