أرنست خوري
فهم الرفيق الراحل جوزف سماحة باكراً، ما هي الهويّة التي يجدر بالكاتب الصحافي أن يكوّنها لنفسه في زمن العولمة وإعلامها. استوعبأنّ الزمن الذي يعيش، ليس ــ ولن يكون ــ زمن الكلمة المطبوعة على ورق. ربما كان يفضّل لو وُلِد في عصر آخر. عصر كانت فيه الصحيفة الورقية، تقريباً كلّ شيء: مانيفستو الثورة؛ إنجيل التغيير، مكروهة الحكام، ملعب المثقفين، مفتاح الشهرة، مسرح المبدعين، شيفرة التواصل بين الأمميّين، مالكة «الحقيقة»، حلم الناقمين وسلاح المسحوقين ممن لم تتوافر لهم بندقية.
لكن، مَن يُعِد اليوم قراءة ما كتبه الرفيق الراحل، على الأقل في الصحافة، منذ «الحرية»، إلى «الوطن» ثمّ «السفير» و«الحياة» والعودة إلى «السفير»، مروراً بـ «اليوم السابع» و«زوايا»، وصولاً إلى مشروعه «الأخبار» الذي أراده «من نوع آخر»، فلا بدّ من أن يلاحظ كم منع الرجل نفسه من عيش نوستالجيا صحافيّة، أكل مجدها الراديو أولاً، والتلفزيون والفضائيات من بعده، ليقضي عليها الإنترنت «العدوّ»، ويجهز عليها بالضربة القاضية، الاتفاق العام والمعولَم، على الهرب من القراءة، والاستعاضة عنها بوجبة سريعة من الـ«فاست فود» الإخباري.
ولأنّ أقصى طموح كلّ صحافي يختار هذه المهنة، هو أن تتسع دائرة قرائه، فلا بدّ أنّ الرفيق جوزف لم يهوَ الكتابة للكتابة. وبناءً عليه، استوعب جيداً، شروط المقالة المقروءة في العصر الذي عاش. لقد اختار الرفيق جوزف، خيار التعب والقراءة ومحاولة استشعار نبض الحدث عن بُعد. فهم باكراً جداً، أنّ الناس لن يضيّعوا وقتهم في فلفشة أوراق مدفوعة الثمن (حتى الصحف المجانية في فرنسا تعيش أسوأ أيامها) وتوسّخ الأيدي، ما دامت أمامها حلول أسهل. غالب الظنّ أنه عذر الناس على «خيانة» الصحيفة وتركها وحيدة. فـ«الجزيرة» وأخواتها، سرقت من صاحب القلم كامل رصيده تقريباً.
بين قسمات المصير الأسود للصحيفة الورقية، وجد الرفيق جوزف، مساحات من الأمل، عرف أنّ بالإمكان البناء عليها، لا لإعادة المجد الضائع للصحيفة، بل لإيجاد مهنة شبه جديدة للصحافي: بدل ناقل الخبر، عليك أن تكون المدقّق في تفاصيله، لكن بحذر، بما أنه «ممنوع الغلط». فالحدث، أكان قراراً أو حرباً أو موقفاً أو فضيحة أو جريمة أو ثورة، ليس «شيئاً ما» كما يعلّمنا علم الاجتماع. هو بالضرورة، امتداد لماضٍ، وتحضير لتطور مقبل. تعبير عن مصالح، طبقية كانت، أم مجموعاتية أم سياسية (محلية أو أجنبية). من يعِد التدقيق في مقالات الرفيق الراحل، فلا بدّ أن يشعر، بأن كاتبنا يؤمن أن أي ظاهرة، هي تجميع لعدد هائل ممّا نسمّيه «تفاصيل». تفاصيل لا علاقة بها بالعناوين العريضة التي تثير شهيّة الفضائيات. عناوين تصنع رأياً عاماً زائفاً، أو «وعياً زائفاً» بلغة الشيوعيين الذين كان الراحل واحداً من أبرزهم في عالمنا العربي، رغم أنف من يحاول خلق هوية متخيّلة لأستاذنا.
وقد يكمن هنا بالتحديد، سرّ أناقة الراحل وهيبته. أن تكتب بلغة رصينة، مقالاً من 500 كلمة أو 600، بلغة صحيحة وسهلة الهضم في آن واحد. مقال لا تهدف من ورائه إلى القول إنك تعرف كل شيء. تكتفي بقول ما تعرف، أيضاً بشرط أن يكون جديداً. كن موجوداً في مقالك، لكن بطريقة «غير مرئيّة»، بطريقة ذكية. حتى إن كنت من أنصار الكتابة التعبوية، فلن تنجح إلّا إذا كان ما تطلب من الناس أن يقرأوه، خلاصة لأدبيات ومعلومات ونقاشات رصينة. أن يكون فكرة جديدة. ومَن فهم أكثر من الرفيق جوزف، أنّ شكل المقال ولغته، قد يكونان أهم من محتواه؟ ساوى الرجل بين الشكل والمضمون. تعليقه وتفكيكه وتشكيكه وأسئلته وأجوبته وتحليله وخلاصاته، كلها جاءت في جمل قصيرة. الجمل الاعتراضية تمرّ خفيفة الظلّ. الرصانة عنده زاوجت الفكاهة، أو بكلمة أدق، «الروح المرحة». حين يكتب عن مصائب تحصل، أو يتخوّف من كوارث ستأتي، يبتعد عن النصح والتفزيع المنفّرين. كأنه حين يكتب عن «شيء بشع»، كان يتناول قبلها جرعة ممزوجة من العبثية والواقعية.
لماذا يشعر بعضنا، بأنّ الرفيق جوزف، لم يطرح على نفسه ولو مرّة التساؤل الأزلي: هل تتعارض «موضوعيّتي» كصحافي (مفترض أنه كان يفضّل مصطلح مهنية على الموضوعية)، مع هويّتي العقائدية وفكري السياسي؟ قد يكون عدم انتسابه إلى كلية الإعلام (في العالم العربي خصوصاً)، قد وفّر عليه عناء المحاضرات الفارغة عن ضرورات الحياد والموضوعية والتجرّد عند الصحافي. محاضرات ممهورة بتعريف للصحافي على أنه «صانع للرأي العام». كيف يكون الصحافي مجرد شاهد، وفي الوقت عينه، يصنع رأياً عاماً؟ وهل هناك شيء اسمه «رأي عام محايد»؟
على الأرجح أن أستاذنا سهّل المهمة على نفسه. فإعادة التدقيق في العبارات التي كتب بها مقالاته، تحمل ما هو أبعد من القيمة الصحافية ــــ التاريخية ــــ السياسية. تحمل قيمة إنسانية أخلاقية عنوانها الصدق. الصدق نقله الرفيق جوزف من عينيه إلى مقالاته ودراساته وكتابيه الوحيدين. قد يكون جديراً اليوم، بتنظيم مسابقة يتبارى فيها النقاد، لضبط تصنُّع ما في أحد مقالاته، أو تناقض مبدئي أو كلمة تندرج في إطار لزوم ما لا يلزم. حتّى حين يسخر، فهو صادق. تجده يغضب في مقاله، ثمّ يهزأ فيحتفل ثمّ يحزن ويتأسّف. كل ذلك مغلّف بطيف محبَّب من الرصانة من دون تكلّف... هي الرصانة الصادقة. صدق لا يمكن الوقوع عليه في أي نمط تعبير، إلا في المقال المكتوب.
لا يحتاج المرء إلى أن يكون قد عاشر الراحل طويلاً، ليكتشف أنه صاحب نظرية جديدة في الموضوعية، أو قل المهنية. أن تأخذ مسافة من الحدث، لا يعني أن تكتب عنه كأنك «مستشرق» آت من بعيد. فأن تكون مهنياً، يعني أن تبادر إلى نقل وجهة نظر من تختلف معه كلياً، قبل أن تسمع رأي من تتفق معه. وفي تفكيك الرأيين، تبقى القراءة النقدية التي تترك دوماً مكاناً للنسبية، حجر الزاوية. وهنا المفارقة: كيف تقول الأشياء بأسمائها، وتذهب حتى النهاية في ما تقوله، وتكون جذرياً لا بل «أرثوذكسياً»، ولا تنفّر قارئك؟ من دون ذلك الحسّ النقدي، يكون تقريرك أو تحليلك أو تحقيقك أو مقابلتك أو افتتاحيتك أمراً من اثنين: إمّا ترداد ببغائي لما يقوله السياسيون. أو اختراع كاذب حلّ مكان البحث عن الخبر وما وراءه وحوله وبعده.
صفة كاتب المقال الذي كانه الرفيق الراحل، لم يحجب عنه الاهتمام ببقية أنواع الكتابة الصحافية. فقد اقتنع الرجل بأنّ الصحيفة الورقية ستموت نهائياً، إذا لم نخترع لها لغة وشكلاً جديدين في الكتابة والاهتمامات والأبواب. التحقيق الاستقصائي، وتحليل الوثائق، والابتعاد عن المادة الخبرية السردية، والمعرفة ولو العامة بحدّ أدنى من العلوم والفنون، كما مشاركة القارئ بمشاهدات الصحافي الميداني، والهروب من العمل المكتبي قدر الإمكان... كلّها قد لا تكون من اختراعات الرفيق جوزف، لكنها بالتأكيد، عرفت نقلة نوعية على يديه أينما حلّ، إلى درجة أنّه بات بالإمكان القول من دون ادعاء، أنه مخترعها لكونه قد نقلها (في لبنان طبعاً) من إطار العمل الفردي لصحافي مميّز هنا، وآخر مغرّد خارج سرب «السياسة التحريرية» لمؤسسته هناك، إلى نهج عام وملزم. نهج لم يكن بالإمكان أن يُعمَّم، من دون مواكبة في تصميم الصفحات، وفق مفهوم جديد لدور الإخراج الفنّي في الصحافة المكتوبة، وسط زحمة الفنون التصميمية ونظرياتها.
الأحجيات بشأن كتابات الراحل كثيرة. لا جواب نهائياً يفضح سرّ حاجتنا للعودة إلى ما كتبه قبل سنتين أو 5 سنوات أو 10 أو 20 سنة أحياناً. الأجوبة النمطية، العلمية والميتافيزيفية منها، من نوع «بُعد نظره»، أو سعة أفق تحليله، أو حتى قدرته الاستثنائية على الكتابة عن المستقبل وتشريح اللحظة الراهنة لتهيئة عناصر مشهد الغد، كلّها لا تكفي. ليس بهذه البساطة يمكن تبرير كيف أنّ كتاباته جديدة دوماً، تحاكي حاضرنا وهمومه، متحرّكة، حيّة، صالحة اليوم للقراءة أكثر مما كانت عليه في الأمس. لن تسكت حشرية بجواب كهذا، لتزيل السؤال من أجندتها: فيمَ كان يفكّر الرجل عندما كان يرسم سيناريو متخيّلاً استهجنه سواد أعظم من الناس حينها، عن مشهد سياسي ما، وها هو الفيلم «المشؤوم غالباً» يتحقق اليوم!
قليل من الشكّ في نهائية العلم كحقيقة ولو غير نهائيّة، قد يأخذ بنا إلى جواب يسهّل المهمّة: للرجل طاقات لم تكن عادية، ليس في التحليل والتمسّك بقناعاته وخياراته وسرعة «أكل» المادة التي يقرأ والحسّ النقدي عنده، وانسيابية كتابته فحسب، بل أيضاً في «تنبّؤ» المستقبل. كلمة ما كنّا نجرؤ على استخدامها لو أنّ الراحل لم يرحل، ببساطة لكونها عبارة غير علمية.
ألا يكفي هذا الرجل فخراً، أنّه على الأقل، أعاد متعة القراءة ــ التفكير إلى الكثيرين ممّن كفروا بها؟