غسان سعود الأصعب، حين يعلم الصحافي الجديد العهد مع جوزف سماحة بموته، هو تذكُّر تلك الملاحظات الصغيرة التي كان سماحة يوزعها عادة في ترويقة الصحف، ثم في تنقّله الخفيف من قسم إلى آخر في الصحيفة، ولاحقاً في جمعة العشاء حول مشاوي «الشيخة»: لا يمكن لصحافي ناجح أن يقول صباح الخير قبل أن يقرأ كل الصحف، فتقرأ «من تحترمهم ومن لا تحترمهم»، وتسطّر تحت الأفكار البارزة، كما تسجّل ملاحظاتك على الأفكار التي تستحق المتابعة. وبعدها تجري اتصالات بمصادرك تسألهم عن جديدهم.
يشعر بالتفاعل معه، فينتقّل بعد أيام إلى ملاحظة أخرى: ضع نفسك قبالة ابن الجنوب ثم حدثه عن السياسة في عكار. في الأساس، لا شيء أساسياً ولا شيء ثانوياً، وغالباً الثانوي أهم مما تصنّفه أساسياً. وربما، سائق الأجرة وناطور البناية وصاحب الدش أكثر تأثيراً في الرأي العام من السياسي الذي تهتم الصحف عادة بآرائه. وتطول لائحة الملاحظات، ثمة مدرسة غير منضبطة تنبش مواضيع، وتستخرج من أصغر حديث شعبي زاوية ثابتة في الصحيفة.
في السياسة آخر أيامه، كان البلد يعيش ازدهاراً سياسياً، بالمعنى الاستهلاكي للكلمة. لكنه في عزِّ الحدث، أراد من فريق العمل في «الأخبار» أن ينظر أبعد من أنفه، أن ينسى وجود سمير جعجع وميشال عون ونبيه بري وحسن نصر الله وسعد الحريري ويلتفت إلى تلك السيدة في جل الديب التي تحب نصر الله، وأن يسأل القواتي الجديد لماذا يعجبه جعجع، وأن يتنقّل من أمليٍّ إلى آخر ويكتشف حقيقة علاقة هؤلاء ببري. وأكثر، كان يريد استعراض كل التفاصيل: فلننظر إلى تفاهم التيار الوطني الحر وحزب الله من زاوية أخرى فنكتب من هو مؤيد عون، من أين يأتي، كيف يفكر، أين يمضي يومه. ولنضع قبالته نموذجاً من حزب الله.
بعد استيعاب «الرحيل»، في باحة تلك الكنيسة، يكتشف الصحافي ــ الحديث العهد مع سماحة ــ صورة أخرى لذلك الرجل الذي تغادر عادة الصحيفة إلى المطبعة ولا يغادر هو مكتبه. فترى حشداً من شبان صغار يأتون من الجنوب وعكار يافعين لوداع الرفيق، تكتشف أن الزملاء الذين وفدوا إلى «الأخبار» من أماكن مختلفة يكاد لا يجمعهم إلا احترام هذا الرجل، وتسمع في تلك الجنازة كلاماً يُضيع بداية ثم تنتظم الأفكار: أن تكون صحافياً، أن تتابع بنهم، أن لا تفوتك معلومة، أن تنظم أفكارك وتربط المعلومات، وأن تكتب ما تريد كتابته دون مراعاة. وفي النتيجة، ستجد من يفهمك، ستجد من يغضب حين يقرأ مقالك النقدي عنه، لكنه بدل أن يحقد عليك، سيحترمك أكثر.
ولاحقاً، إثر زيارات لناس تتعرف إليهم بعد أسابيع وأشهر وسنتين من وفاة سماحة تكتشف الرجل أكثر، تراه في اشتياق عيون كبار إلى تلك الأسطر التي يمكن نشرها بتاريخ اليوم، فتراهم يحاولون ربط الأفكار كما علّمهم سماحة، وبعضهم يرتبك في عالم الإنترنت بحثاً عن مواقع وأسماء صحف ومراكز دراسات كان يكرر سماحة ذكرها في مقالاته. ووسط ذلك كله، تكتشف أن لا صفات لجوزف، هو ليس مَلك الأقلام ولا عبقري التحليل ولا شاعر الصحافة ولا صوت الحقيقة، هو «الصحافي» ونقطة على السطر.
وهكذا، يكتشف الصحافي ــــ القديم العهد مع جوزف ــــ معنى أن يكون صحافياً، أن ينتمي إلى مهنته رغم كل قدرته التأثيرية في الحياة السياسية، ورغم كل الأبواب التي كان يمكن أن تفتح له، وأن لا يوظف علاقاته إلا للمهنة.
في لحظة، تبدو الصحيفة عالماً مملاً، روتينياً، وينتبه الصحافي فجأة إلى أنه لم يقرأ صحفاً ولا حتى صحيفته، ومقاله منذ بضعة أيّام. في لحظة كهذه تطل ابتسامة سماحة المتّقدة، تنبّه إلى أنّ الصحافة ليست ممارسة بل انتماء.