الموجة النيو ــ ليبرالية التي حملت العولمة قد لا تكون إلى تراجع. إلا أنها باتت موضع شك في الأوساط التي روّجت لها من «منتدى دافوس» إلى صندوق النقد الدولي. أما في لبنان فنعيش متأخرين بعض الشيء. ساعتنا متوقفة عند لحظة صعود الموجة من دون أن نرافق ارتدادها وانكسارها الجزئي. الرئيس فؤاد السنيورة رمز ساطع لهذا الفوات. لا يرفع لواء التحرير الكامل للاقتصاد فحسب، بل يعتبر ذلك جواز المرور الوحيد إلى الحداثة والتقدم ومحاكاة العصر. يكفي أن تكون الخصخصة حصلت «هناك» لتصبح واجبة هنا. هذا أولاً. ثم إن إيجابياتها، ثانياً، فوق النقاش. إنها، في حد ذاتها، حجة على صوابها. يتغافل عن إخفاقاتها وعن تعرضها للمساءلة، ويتغافل، إلى حد ما، عن ضرورة إحاطتها بضوابط كثيرة في بلد عالمثالثي، ولو كانت له خبرة مع «الاقتصاد الحر».يتسلّح السنيورة بماضٍ له سحيق ليذهب، أبعد من اقتصاديي «الكيان اللبناني» ومنظّريه الليبراليين، في الدعوة إلى تحرير التجارة والإيمان الصوفي بسحر السوق. نضيف إلى ذلك أنه محاط، في الحكومة الحالية، بفريق اقتصادي لا نعرف عنه أي تعاطٍ بالسياسة. إنه فريق مطّلع على نظريات سائدة ومتحمّس لتطبيقها في حقل التجارب اللبناني. يحفظ الأرقام غيباً ويردّدها. يحاضر في التوازنات الاقتصادية الكبرى، متجاهلاً مدلولاتها في الواقع الملموس. يستطيع أن يستنبط حلولاً لمشاكل انطلاقاً من معطيات مجرّدة تغفل، تماماً، الخصوصية الوطنية وتكتفي بإعادة إنتاج محلية لوصفة صندوق النقد و«إجماع واشنطن».
تجدر الإشارة، هنا، إلى أن السنيورة وفريقه الاقتصادي المباشر لم يتعرضا، مرّة، لتجربة الاحتكام إلى الشعب عبر انتخابات. وهذه نقيصة في الحياة الديموقراطية الجديّة لمن كان في هذا الموقع التقريري. ولا يقلّل من انعدام المشروعية الانتخابية تظاهرات الدعم للحكومة في المناطق، ولا زيارات الوفود «الشعبية العفوية» إلى السرايا. فهذه التحركات تنهض فوق تعبئة سياسية ذات بعد مذهبي مؤكد يقوم بها دعاة لا علاقة لهم بالمشروع الاقتصادي ـــ الاجتماعي ولا بتفاصيل ما ستقترحه الحكومة على مؤتمر باريس ـــ 3.
ثمة بدايات، في لبنان، لنقاش يتناول البرنامج الحكومي تقنياً واقتصادياً واجتماعياً. إلا أن في الإمكان، لا بل من الضروري، اقتراح مداخل أخرى لهذا النقاش.
أولاً ــ لبنان بلد مركّب تتوزع الثروة فيه، بتفاوت، بين المناطق والطوائف. وعندما يعرف هذا التوزّع تعديلاً، فإن العين تذهب إلى ملاحظة نتائج ذلك على المذاهب لا على الطبقات الاجتماعية. وتدلّ التجربة الخاصة بلبنان على أن ضعف الدولة وانسحابها من مجالات محددة في التعليم أو الاستشفاء أو الضمان أو الخدمات أو... ان ذلك لا يؤدي إلى تحرير المواطن الفرد من سطوة «الأخ الأكبر»، ولا إلى تقدم القطاع الخاص المتبلور بصفته كذلك ليصبح أكثر فاعلية بل، أساساً، إلى تقدم التشكيلات ما قبل الدولتية، وأبرزها الطوائف، من أجل ابتلاع الحيّز العام وتعزيز الاتجاهات النابذة. قد يقول قائل إن تضخم هذا القطاع العام يؤدي إلى تجويف الدولة من الداخل عبر الزبائنية والفساد والمحاصصة الطائفية. هذا صحيح. لكن الأصحّ منه أن هذا التجويف يبقى خاضعاً لمعايير وضوابط نابعة من طبيعة الدولة بصفتها مكان لقاء وتداخل وتعايش وتبادل مشروط للمنافع.
ثانياً ــ لم يثبت القطاع الخاص اللبناني، ولا مرة، أنه خارج الاصطفاف الطائفي وأنه صاحب مشروع وطني مستقل وتوحيدي. لذلك فإن الدولة «مضطرة» إلى أن تبقى أرقى منه في هذا المجال. والخشية كبيرة من أن يؤدي تغليب القطاع الخاص على القطاع العام وعلى دور الدولة إلى افتقاد الشرط الضروري، ولو غير الكافي، لقدرة المؤسسات الجامعة، مهما قيل فيها، على لجم التباعد والتخفيف من إضعاف الأواصر الوطنية.
ثالثاً ــ إن الأزمة التي يعيشها لبنان راهناً طاحنة وذات طابع انقسامي حاد. والخوف من الانهيار الوطني الشامل مبرّر. ومن يقل انهيار يقل، بالتحديد، تفكك مؤسسات الدولة. وثمة تباشير لذلك (الخلافات على رئاسة الجمهورية، والحكومة، والبرلمان والأمن...). إن عنصر المقاومة الأساسي لهذا التفكك هو وجود مصالح مشتركة للبنانيين تجد في الأجهزة والمؤسسات الرسمية (تعليم، استشفاء، خدمات...) مجالاً للتعايش الصعب. ستكون مغامرة غير محسوبة التضحية بذلك في ظل التصدّع الحالي في البنية الوطنية وركضاً وراء سراب الفاعلية.
رابعاًــ من المهم جداً في لبنان مغادرة وهم القدرة السحرية للسوق على التوحيد. لبنان بلد معولم قبل الأوان. ولما جاءت العولمة النيو ــ ليبرالية الظافرة وجدنا أن فتح الأسواق وإسقاط الحواجز بين الدول يترافقان مع أكبر قدر ممكن من الانطواءات الإتنية والقومية والطائفية وما يصاحب ذلك، كونياً، من حروب متذرّرة ومبعثرة لا حصر لها تهدّد الدولة الوطنية من تحت فيما تأكل العولمة من سيادتها من فوق. إن تجربة العالم المعاصر المحكوم بالعولمة النيو ــ ليبرالية سيئة بالتأكيد على صعيد الاندماج الوطني ومشكوك فيها على صعيد العدالة والتنمية المستدامة. لذا يفترض بالفريق الاقتصادي اللبناني، أي الفريق المعني ببلد يعاني نقص الاندماج الوطني، أن يملك ما يقوله لبيروقراطيي «دعه يعمل، دعه يمرّ» الباردين.
رابعاً ــ جاء في مقدمات البرنامج الحكومي إلى باريس ــ 3 وصف للاقتصاد اللبناني في أواسط السبعينيات يتحدث عن «الازدهار» وعن «الإدارة الاقتصادية الحكيمة» وعن «الدور الرائد للقطاع الخاص»... باختصار كان الوضع نموذجياً، لكن إذا بها حرب نتجت من وقوف لبنان «على مفترق طرق السياسة الدولية والصراعات الإقليمية». هذا وعي أيديولوجي لا يقول لنا الكثير عن «الاقتصاد الرائع» الذي انتهى باقتتال، ولا عن الأسباب الفعلية للحرب وعلاقتها بالانقسامات اللبنانية. لمَ لم ينتج ذلك «الاقتصاد» أي سياسة تقي لبنان؟ وهل يستطيع أي وعد بتجديد هذا الجانب من «المعجزة اللبنانية» أن يحمي بلداً يعيش ما يعيشه من توترات ويقف، مرة أخرى، «على مفترق طرق السياسة الدولية والصراعات الإقليمية»؟
خامساً ــ يقول البرنامج إن الحكومة تريد «التخفيف من وقع التصحيح على الفئات الأقل قدرة». وقع التصحيح حاصل والمطلوب هو التخفيف منه فقط. ينبغي تذكير السادة في الفريق الاقتصادي بأننا في لبنان. وفي لبنان الراهن يؤدي العبء الإضافي على الفئات الأقل قدرة إلى الدفع باتجاه المزيد من التخندق المذهبي والطائفي، حيث تؤدي العلاقات الأهلية دور شبكات الأمان المفقودة. يحصل دمج بين التوتر العصبوي والقهر الاجتماعي، وينتج من ذلك مزيج متفجّر يضع «الفقراء» في مواجهة بعضهم بعضاً. نزيد على ذلك أننا نعيش تماهياً بين القوى الدافعة للمشروع والحاضنة له وبين انتماء مذهبي معيّن في ظل تحوّل المشروع نفسه إلى أداة قتالية في نزاع ذي بعد طائفي. يعني ذلك، عملياً، أن البرنامج سيقود إلى وقوف الطوائف الأخرى ضده وإلى حتمية اعتماد خطاب شديد الانغلاق المذهبي من أجل إلحاق فقراء الريف (السنّة) بالتوجّه المطلوب. إن هذه أقصر طريق نحو الكارثة لا نحو النمو وزيادة فرص العمل!
سادساً ــ يدرك السنيورة تماماً أن جلّ ما قام به، وزيراً للمالية، لم يكن ممكناً لولا «نجاح» الدور السوري في ضبط اللعبة الداخلية اللبنانية وتوزيع الأدوار على أطرافها. وربما كان في أساس الأزمة الحالية محاولة انتزاع الملف الاقتصادي من الرئيس رفيق الحريري لمصلحة إميل لحود. وقد تبيّن وقتذاك أن ما قدم نفسه بصفته برنامجاً إصلاحياً ظهر كأنه محاولة لاضطهاد الطائفة السنّية! إن الوضع، اليوم، أشد صعوبة. لا يستطيع فريق واحد أن يستعيد الملف الاقتصادي بعد أن صادر ملفات السيادة، والمقاومة، والموقع الإقليمي، والإدارة، والتوازنات الداخلية كلها. ينكسر لبنان تحت ضغط هذه المحاولة العنيدة. لا إصلاح من دون وفاق. ولا برنامج إلى باريس ــ 3 من دون حماية سياسية داخلية.
هذه قضايا جديرة بالمناقشة بدل الاكتفاء بحديث الأرقام. وإلا فإن السير نحو الهاوية سيتحوّل هرولة. ويصبح من الواجب أن نهتف مع الهاتفين: عاش الجمود عاش التعطيل!
(عدد الثلاثاء ٩ كانون الثاني ٢٠٠٧)