... ولكن ما هو الجامع بين أفيغدور ليبرمان وبين سياسة دفاعية لبنانية؟ لا شيء للوهلة الأولى. لنتمهّل قليلاً.تجري مفاوضات، هذه الأيام، في إسرائيل لضم حزب «إسرائيل بيتنا» بزعامة ليبرمان إلى الحكومة. إذا لم تنجح المباحثات بسبب اشتراطات الرجل الخاصة بتغيير النظام السياسي وتحويله رئاسياً. عدا ذلك لا مشكلة جدية في الانضمام، ولا مشكلة، تحديداً، عند كثيرين من نواب حزب «العمل» ووزرائه وعلى رأسهم شمعون بيريز.
من هو ليبرمان؟
مهاجر «صعد» إلى إسرائيل من مولدافيا وانضم إلى اليمين الأقصى. أدخله بنيامين نتنياهو إلى الحياة السياسية من الباب العريض عندما عيّنه مديراً لمكتبه في رئاسة الحكومة مراضاة لليهود الروس. انشق، لاحقاً، عن «ليكود» لأنه اشتمّ فيه تفريطاً بأمن إسرائيل واستعداداً للتنازل. الرجل قريب في أفكاره إلى حركة «كاخ» العنصرية. وهو لا يدعو فقط إلى تدمير السلطة الوطنية وعدم الانسحاب من الأرض المحتلة، بل، أيضاً، إلى إجلاء الفلسطينيين من عرب 48، وضم مناطق واسعة من الضفة بعد تقسيمها إلى أربعة كانتونات. لا ضرورة للقول إنه ضد عودة اللاجئين، ومع الاستيلاء الكامل على القدس، ومعادٍ لنشوء دولة فلسطينية. كما لا ضرورة للتذكير بأنه مع إبادة القيادات الوطنية الفلسطينية كلها ومع الإقدام على أقصى الإجراءات ضد «العدو الذي يحتل أرضنا».
إذا أخذنا أي عنوان من عناوين الحياة السياسية الإسرائيلية، وخاصة في ما يتعلق بالعلاقة مع الفلسطينيين، نجد أن ليبرمان هو الأكثر تطرفاً وهو الذي يقدم «الوجه الجديد لليمين القومي». ولا تختلف نظرته إلى «الجيران العرب» عن هذا المنظور، إذ إنه يستغرب مجرد التفكير بتسويات تقود إلى تنازلات ما دامت إسرائيل ربحت حروباً وفي وسعها أن تربح في المستقبل.
مبادئ «إسرائيل بيتنا» تجعل منه حزباً ممنوعاً من ممارسة العمل السياسي في أي دولة غربية ديموقراطية. لكن ذلك لا يمنع أنه حلّ رابعاً في الانتخابات الأخيرة. كما تشير استقصاءات الرأي إلى أن في وسعه أن ينافس على المركز الأول في أي انتخابات جديدة مع احتمال أن يحلّ ثانياً خلف «ليكود» بنيامين نتنياهو. وسرّ هذا «الصعود» أن الجمهور الإسرائيلي، بعد حرب لبنان، وبعد طيّ خطة الانطواء، وبعد الدعم الأميركي غير المشروط، وفي ظل الانهيار العربي المشهود، إن هذا الجمهور يزداد ميلاً إلى التطرف واعتناق الأفكار القومية الأشد تعصباً.
اللافت أن احتمال انضمام «إسرائيل بيتنا» إلى الائتلاف الحاكم أثار احتجاجاً يطال اقتراحاته الداخلية ولكن قلائل هم الذين توقفوا عند العنصرية الفاقعة في برنامج الحزب وتصريحات قادته. ولقد قاد هذا الواقع المعلق الإسرائيلي جدعون ليفي إلى ملاحظة كم أن إسرائيل تندفع نحو الأقاصي، وكم أن الحكومة الحالية تطبّق بنوداً من برنامج ليبرمان، وكم أن «تطبيعاً» حصل مع حزب كان كثيرون لا يترددون في وصفه بـ«النازي».
والمعروف أن الرجل يلاحظ هذه التطورات كلها ويعتقد أنه متّجه، ذات يوم، إلى أن يصبح الرجل الأول في الدولة. نعم، إن هذا الاحتمال وارد مع ما يعنيه من تصعيد في دورة العنف، ومن حروب جديدة لا تنتهي، ومن اعتداءات على الدول المجاورة بما فيها التي وقّعت اتفاقات سلام، ومن مطامع عدوانية وتوسّعية تزيد خراب المنطقة خراباً.
أن يكون ليبرمان احتمالاً، سواء كشريك حكومي في موقع «وزير الشؤون الاستراتيجية» كما يُطالب، أو كرئيس حكومة، أن يكون ذلك وارداً يقول الكثير حول آفاق التسوية والحل، وحول مؤدّى السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وحول السلوك الإسرائيلي حيال قضايا تبدأ في فلسطين وتمر في سوريا وتصل إلى إيران وتطال... لبنان.
الغريب أننا، في لبنان، عندما نناقش في أمور السياسة الدفاعية المرجوّة نفعل ذلك، أو يفعل البعض منا ذلك، وفقاً لحسابات داخلية متصلة بموازين القوى، وبتقاسم السلطة، وبأوزان الطوائف. قليلون منا هم الذين يضعون هذا النقاش في إطاره الصحيح، إطاره الإقليمي والدولي، مع ما يعنيه ذلك من اضطرار إلى التحسّب والاستدراك وإجراء الحسابات التي تشمل الإقليم كله وقضاياه المتفجرة وديناميات الصراع فيه.
ينحدر سياسيون لبنانيون بهذا السجال إلى قعر مزرٍ، ويضربون عرض الحائط باحتمالات المستقبل القريب، ولا يتورّعون، بناءً على ذلك، عن المطالبة الخفيفة بتجريد بلدهم من أي عنصر قوة يمتلكه. يقيمون رهانهم على أنواع من الحماية ثبت بطلانها وعدم فاعليتها ويمتنعون، ولو مرة، عن تقديم أي تقدير لما ستكون عليه المنطقة بعد سنوات، وللقدرة الفعلية على الحياد في صراعات بمثل هذه الجذرية وفي مثل هذه الرقعة الجغرافية الضيقة.
سيكون مخالفاً لأي منطق الخوض في السياسة الدفاعية اللبنانية بمعزل عن رؤية الصورة الأشمل. لكن هذا الابتعاد عن المنطق هو المتحكّم بقوى سياسية لبنانية نافذة، وهو المسؤول عن توجّهات تعتمدها، وعن إجراءات تدعو إليها.
نعم، إن هناك متسعاً لنقاش يطال سلاح المقاومة. إلا أنه نقاش يصعب عزله عن مجريات المنطقة وعن ملاحظة الاتجاهات الثقيلة التي تشد إسرائيل نحو الاعتقاد بأن اعتداءاتها هي، في الحقيقة، حروب دفاعية عن الوجود والكيان. هذه العُظامية الإسرائيلية تجد تعبيراً نموذجياً لها في أفيغدور ليبرمان، وتجد أرضية خصبة لها في المزاج الشعبي الذي يبحث عن منقذين في رجال من هذا النوع.
لا حوار مفترضاً عن السياسة الدفاعية حول أي طاولة حوار بعد اليوم. والقصد أن لا حوار إلا بحضور ليبرمان وبرنامجه أو، على الأقل، إلا بحضور الإدراك الحاد للمستقبل القريب الذي نتّجه إليه في هذا الشرق تحت ضغط النيوكولونيالية الأميركية المعطوفة على التوسعية الصهيونية.
(عدد الثلاثاء ١٧ تشرين الأول ٢٠٠٦)