تعزو الروائية إخفاق المقاومة الفلسطينية إلى سببين: وضع المرأة والجهل المتفشّي في المجتمع. وبهذا، يرصف عملها الجديد «أصل وفصل» (دار الآداب) أرضيّة المجتمع الفلسطيني في أواخر الثلاثينيات، انطلاقاً من عناصر بحثية وتاريخية
نوال العلي
صاحبة «مذكّرات امرأة غير واقعية» تنتمي في سردها إلى المدرسة الواقعيّة بامتياز. الروائية الفلسطينية سحر خليفة في «أصلٌ وفصل» (دار الآداب) تقف موقفاً بعيداً عن الوجدانيات من المسألة الفلسطينية، يعزز ذلك اشتغالها المطوّل في الأبحاث الاجتماعية، فتبدو بما قدّمته من مواقف تاريخيّة على مسافة واحدة من الجميع، لا تفضّل جانباً فلسطينياً على آخر ولا تبرز شخصية على حساب أخرى، ولا ندري إن كان هذا عيباً أو ميزةً في العمل.
تقرأ في عمل خليفة الأسباب التي أدّت بالمقاومة الفلسطينية إلى إضراب الـ175 يوماً الذي وقع سنة 1936 وضمّ مدناً تجارية كبرى هي القدس وحيفا ويافا ونابلس، رغم أن تفاصيل الإضراب ونتائجه الوخيمة على المجتمع الفلسطيني لم تكن الحدث الأهم في الرواية. لقد شُغلت خليفة برصف أرضيّة المجتمع الفلسطيني في تلك الحقبة، لتقول ما قالته في مجمل أعمالها قبلاً. غير أنّها قدمت ما يسنده تاريخياً هذه المرّة. إذ تعزو خليفة صاحبة الخطاب النسوي، إخفاق المقاومة الفلسطينية إلى سببين رئيسين هما وضع المرأة ثم الجهل المتفشّي في المجتمع الذي يمكن وصف حسن نيّته بالسذاجة، بالإضافة طبعاً إلى مواقف الأنظمة العربيّة.
وتظهر مؤلفة «ربيع حار» ذلك عبر ابتكار مواقف للمقارنة المستمرة بين اليهود والفلسطينيين في تلك الفترة. ها هي المرأة الفلسطينية المقموعة من كل جانب، تقارن ضمنياً في مشاهد شبه كوميدية إلى جانب المرأة اليهودية الحرّة اجتماعياً والمجنّدة عقائدياً.
وبصيغة المتكلّم والراوي العارف بخفايا كل شيء، تبدأ الرواية بحكاية الجدّة زكيّة القحطان سليلة العائلة النابلسية الشريفة التي تكشف المستور بأسرار التنجيم. بالطبع، أيّ قارئ مطّلع على العائلات الفلسطينية العريقة يستنتج عمّن تتحدث خليفة، فهي لم تبتعد كثيراً في تسمياتها عن أشهر عائلات نابلس وأثراها. تفتقر أسرة زكيّة بعد أن يموت زوجها، ويسرق عمّها، أشهر الأولياء المتدينين تركوها، فتضطر للعمل. وبعد سنوات، تدفع بابنتها وداد للزواج من رشاد ابن شقيقها الثري، رغم غبائه المستفحل، فيما ينخرط وحيد ابنها البكر في صفوف ثورة عز الدين القسّام، بينما يصبح أمين صحافياً يميل إلى الشيوعيّة. كذلك نتعرف إلى ليزا الفلسطينية المسيحية المتنوّرة، وهي نموذج مختلف تماماً عن زكيّة ووداد. وعبر هؤلاء الأبطال الأربعة، تحكي خليفة أربع حكايات تنسج القصة الكبرى للمجتمع. المرأة المضطهدة الجاهلة، تقابلها الذكية والمتعلّمة. مثلما يقابل المتديّن الشيوعي. هكذا تسير الأحداث وصولاً إلى استشهاد القسّام الذي كان أحد أسباب قيام الثورة ثم الإضراب. تتكئ خليفة على تقنية التوثيق في هوامش الصفحات، وهي مسألة غير مألوفة في الرواية، فتشير إلى مراجعها مثل مذكّرات أكرم زعيتر أحد قادة الإضراب ومذكّرات الأديب خليل السكاكيني وكتب تاريخية أخرى.
هذا في ما يتعلّق بموضوع العمل، أما الأسلوب، فهناك الكثير مما يؤخذ عليه. لقد تركت خليفة شخصية الباحثة تظهر في مواضع كثيرة على حساب الروائية، وقلّما استطاعت دمج الاثنتين والخروج برواية تاريخية خالية من النفس التعليمي: «قبل البدء في وصف تفاصيل ذاك اللقاء المدهش بين النساء، لا بد من إعطاء لمحة وجيزة عن الخلفيّة التي جاءت منها بنات شالوم، إذ لا يمكن أن نفهم سبب الخلاف من دون الرجوع إلى الماضي والخلفيّة، فنحن نعلم أنّ النساء قياساً بالرجال أرقّ وأنعم، لكن الأهمّ...» تشعر بأنّ هذه توطئة لبحث وليست لغة لسرد أدبي.
وفي ما يتعلّق باللغة، استخدمت خليفة أقل درجاتها بلاغة وجماليةً كأنّها تعرف قارئها تماماً أو كأنها تتحدث إلى البسطاء فتكثر من السجع وتخلط الهزل بالجد والعامية بالفصحى، فتكتب كما تتكلم بالضبط. وفي بعض المواضع نسمع على لسان أبطال العمل لغةً لا ينطق بها أمثالهم، لنر كيف يتكلّم السير آرثر الحاكم الإنكليزي: «يا جماعة الخير، ولا يهمّكم الضرب بعيد، بعيد جداً» أو «احتضنها بعينيه وكأنه يقول: سبحان الله ريتك ستّي، الله خلقك وكسر القالب، أنا محسوبك». الجميع هنا يتحدثون باللغة نفسها، اليهودي والعربي والإنكليزي المتعلّم والجاهل، بل إنّ خليفة لم تتنبّه ربما إلى استخدامها مفردات مثل «إرهابيون، تطبيع، صحافة وإعلام» وهي لم تكن متداولة سياسياً في ذلك الزمان.
«أصلٌ وفصل» هي الجزء الأول من رواية طويلة، استنادها إلى التاريخ لا غنى عنه، وإن لم يكن لشيء أن يكسبها مكانةً أدبيةً رفيعةً إن خلت من صنعة السرد المحكمة. التاريخ متاح في الكتب والوثائق. أمّا الأدب فيبعث بمخيلته التاريخ ويعيده إلى الحياة بقراءة جديدة، إنّه فعل يشبه التقمّص، لكن خليفة في النمط الواقعي التاريخي الذي إختارته عجزت عن وضع طاقة الأحداث والشخصيات في سياق مقنع، حين تقرر أن تقلبها من حال إلى حال. وبكلمات أخرى، حين يختار الروائي إعادة إنتاج الواقع المعتاد، يلزم أن يخرج إلينا بجديد يمتع العقل. كأنّنا بخليفة وقد عرفت مشكلة روايتها فقدّمت عذرها في البداية بكلمات باسكال «لا تقولوا لم أقل جديداً، ترتيب العناصر هو الجديد». وقد يقول قائل للروائية: ليست المسألة في ترتيب العناصر، المسألة في كيفية استخدامها.