محمد خير «لا أعرف لماذا اختار أبوك هذه المقبرة البعيدة/ في آخر طابور طويل من المقابر؟!/ هل لأن الطريق إليها يتصاعد/ حتى لتبدو من بعيد كأنها على ربوة؟/ هل كان مطمئناً ساعتها إلى مسارات الكريشندو؟/ أم كان يمد المسافة بأقصى ما يستطيع ليصالح الموت؟». ديوان فاطمة قنديل «أنا شاهد قبرك» (آفاق ــــ القاهرة)، أهدته الشاعرة إلى روح صديقتها سها جابر عصفور، أستاذة الأدب الإسباني التي رحلت قبل أقل من عامين، عن عمر لم يتعدّ الثامنة والثلاثين، وتوأمين جنينين (ياسين ونور) رحلا مع جسدها. الإهداء يتخطى العنوان إلى النصوص نفسها، ثم إلى حالة الديوان ذي الحجم الصغير (47 صفحة) والأسئلة الكبيرة «هل كتبت شعراً؟ بماذا أسمّي ذلك اللهاث وراء الكلمات/ وهي تتقافز كالفئران من السلال؟». قصائد الديوان ليست عن الموت في ذاته، بقدر ما هي عن ما يزرعه الموت من وحدة ومن أرق، ومن هواجس لا يزيحها أن نكتبها ولا أن نسخر منها «سدّت شرايين قلبي/ أليس هذا جميلاً؟/ ألا يجد الإنسان منفذاً يضخّ فيه أيامه/ سوى أصابعه؟».
من هنا، لأن حقيقة الفناء أرسخ من أن يزيلها الاحتجاج، تضطر النصوص للانشغال بالمشاهدات: «لم يكن هناك أحد/ طريق طويل خال/ والنملة نفسها التي شاهدتها بالأمس/ قطعت نصف الطريق/ بين مقبرة جيرانك ومقبرتك، تحمل شيئاً، الشيء نفسه». لا ينحصر ذلك الجمود بالكائنات فحسب، بل بالجمادات أيضاً «سأتسلّى بقراءة اللافتات في عبوري/ وستبقى اللافتات متكئة على قراءتي العابرة».
ليس ذلك الاتكاء الوحيد. إذ يستند الديوان إلى أسماء أخرى (آني آرنو، يوكيو ميشيما، نيتشه، أم كلثوم، أسامة الديناصوري)، يقتطع منهم كلمات ونصوصاً تتجاوب معها القصائد، وتصنع مشاهد لا تغادر الحزن حتى أثناء الحديث عن أغنية جماعية: «يمررون اللحن من تحت المناضد/ وتبدو أقدامهم وهي تضبط الإيقاع/ حنونة/ حتى أنك تخشى لو لمستها/ أن يجهشوا بالبكاء».
الديوان، رغم عنوانه، مشغول بالأحياء لا بالراحلين، القصائد عمّا خلّفه أولئك من فراغ ووحشة. أما الراحلون أنفسهم فتركوا ذلك كلّه: «أنت تجلسين الآن على شاطئ/ وأمامك يلهو ياسين ونور/ أنا أعرف أن الله قد منحك بحراً/ بحراً لك وحدك». لم الكتابة إذاً؟ تكتب فاطمة قنديل «لأصفع وجوه اللحظات المتشابهة».