كاليغرافيا صوتية موسيقية بمشاركة فاديا طنب ـ الحاج
يستحضر التجويد هنا، والإنشاد السرياني هناك. يلجأ إلى النصوص القديمة أو الحديثة، يخلط الديني بالدنيوي. مسيرة هذا المؤلف اللبناني وعازف البيانو ملأى بالتحوّلات، وأسطوانته الجديدة تجربة رائدة في الأداء الصوتي والغنائي، المنفرد أو الجماعي، تجمع غير المألوف في موسيقى الشرق والغرب

بشير صفير
ما مِن عبارة قد تختصر شخصيّة المؤلف وعازف البيانو اللبناني زاد ملتقى ومساره الفني أفضل من «إعادة النظر». هذا المفتاح يمكن استخلاصه من خلال مراقبة تطوّر مسيرة ملتقى الفنيّة على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، والتحولات التي طاولتها جذرياً (الانتقال من العزف الكلاسيكي على آلة البيانو إلى التأليف) أو جزئياً (تبلور لغة التأليف الموسيقي ضمن خطٍ ثابت رسمه ملتقى منذ البداية). ولعلّه خير تعبير عن المقاربة النوعية التي اعتمدها الفنّان اللبناني الشاب في الالتفات إلى الإرث الثقافي العربي.
الجمهور اللبناني يكتشف هذه الأيّام أسطوانته الجديدة «رؤى» (إنتاج L’empreinte digitale / توزيع «إنكوغنيتو» في لبنان والوطن العربي) التي صدرت في أوروبا قبل أشهر، وقد قدّمها أخيراً في قبو كنيسة القديس يوسف في بيروت.
زاد ملتقى (1967)، نجل الفنانَين أنطوان ولطيفة ملتقى، درس العزف على البيانو في لبنان حتى 1984، ثم غادر إلى فرنسا حيث تابع دراسته وشقّ طريقه الإبداعيّة. راح يقدِّم أمسيات يؤدي فيها من أعمال كبار المؤلفين. في هذا السياق، أصدر العازف الشاب أسطوانات عدّة كانت حصة الأسد فيها لقطبَي الحقبة الرومنطيقية شوبرت وبرامز، إضافة إلى أبرز الورثة الفرنسيين لتلك الحقبة، غبريال فوريه.
هذه هي المرحلة الأولى من مسيرة زاد الفنية التي لو انطلقنا منها لتفسير المرحلة الثانية لما وجدنا روابط أو استمرارية تذكر. بعد تجربته كمؤدٍ، أعاد ملتقى النظر باكراً ـــــ وفي الوقت المناسب كما يبدو ـــــ في موهبته كعازف. وما كان منه إلا أن تحوّل إلى التأليف، تحت مظلّة المعاصر، في النصف الأول من التسعينيات. هل هو اعتراف ضمني أن لا شيء استثنائياً يمكن إضافته في مجال الأداء على التركة الضخمة التي راكمها عشرات العازفين التاريخيّين؟ على الأرجح نعم، وفي ذلك تواضعٌ وذكاء.
هكذا انتقل زاد من «الأداء» إلى الخلق، أي التأليف، تاركاً خلفه محاولات إعادة تقديم رؤيته الخاصة والمحدودة لبعض محطات التراث الموسيقي العالمي. لكن كيف سيؤلّف؟ وماذا؟ وفي أيّ اتجاه؟ واستناداً إلى أية معايير؟ سرعان ما وجد ملتقى الابن ضالته في الإرث الثقافي العربي (الموسيقي والأدبي، الديني والدنيوي). رأى فيه مادّة جذابة ومتينة، يمكن الانطلاق منها في رحلة إعادةِ نظرٍ أخرى، لا تنسلخ عن الجذور ولا ترقد في قعرها. واستناداً إلى اهتمامه الأصلي، وثقافته الموسيقية الواسعة من جهة، وافتتانه بالقوالب الغنائية والمقامات الموسيقية العربية من جهة ثانية، خرج زاد بخلاصة وجّهت مسيرته الجديدة، ووفّرت لها قاعدة واضحة: توظيف المصدرين وصهر مكوّناتهما في إطار خاص جداً. المحطة الأولى كانت مع ألبوم «أناشيد» (2000) الذي ارتكز نصاً على «نشيد الأناشيد»، في حين أتت الموسيقى لتعلن عن خطٍ حداثوي سيصبح أكثر تماسكاً وأعقد شكلاً. ثم صدرت أسطوانة زاد الثانية «زارني» (2002) التي رأى فيها فنّ الموشَّح من زاوية خاصة، وأهداها إلى المؤلف الإيطالي الطليعي لوتشيانو بيريو. هذا الإهداء يبدو حتمياً، إذ يمكن استخلاص قاسمين مشتركين بين هذين المؤلفَين: الحداثة والرجوع إلى الإرث الثقافي والفولكلور، علماً بأنّ رؤية بيريو لم تنحصر بالفولكلور الإيطالي، بل كانت شاملة ووصلت إلى آذربيجان.
مضت ست سنوات تقريباً ـــــ وضع خلالها مؤلفات عديدة لم تصدر ـــــ على أسطوانة «زارني» التي غنّت فيها الألتو اللبنانية فاديا ـــــ طنب الحاج، شريكة زاد في معظم مؤلفاته الغنائية، مع مرافقته على البيانو، ومشاركة جهاد شمالي (عود) وبيار ريغوبولوس (إيقاعات). وها هي أسطوانة «رؤى» تأتي لتضاف إلى رصيد زاد ملتقى، المؤلف الذي التقاه الجمهور اللبناني في «مهرجان البستان» 2006 عندما حنّ إلى كاره القديم، فأدّى سوناتات لموزار وهايدن.
تحتوي أسطوانة «رؤى» على مؤلفات مستقلة أدّاها كورس Les éléments بقيادة الفرنسي جويل سوبيات، إلى جانب فاديا طنب ــــ الحاج ومشاركة فرقة «آرس نوفا». أُلّفت هذه المقطوعات بين 2003 و2007، لكنّها متداخلة هنا ومتشابهة هناك. لذا شكلت وحدة متماسكة ذات عنوان عريض: تجربة رائدة تبحث في الأداء الصوتي والغنائي، المنفرد أو الجماعي، مع مرافقة صوتية و/ أو موسيقية أو من دونهما، شرقية غير مألوفة في الشرق كما في الغرب، أو غربية مألوفة في الغرب وغير مألوفة في الشرق، «متطرفة» في الحداثة أو معتدلة.
يفكّك زاد الكلمة إلى أحرف، في بعض ما احتوته الأسطوانة، فيرسم كاليغرافيا صوتية موسيقية. يستحضر التجويد هنا، والإنشاد السرياني هناك. يلجأ إلى النصوص القديمة، يلحّن نصوصاً حديثة (جورج شحادة وكاترين بِيّون)، أو يبتكر لغةً ألفاظها من نسج الخيال، ويخلط الديني بالدنيوي. في الموسيقى، يستخدم الأواني المنزلية لخلق أصوات قرعيّة تكوِّن الإيقاع الفوضوي، أو يجهِّز البيانو على طريقة جون كايدج، فيزج فيه «أغراضاً» تحوِّر نبرته، أو يكتب انزلاقات للكورس مستذكراً المؤلّف المعاصر إيانيس كزيسناكيس...