في الفندق نفسه تقاطع موعدان متجاوران ظاهريّاً، ومتواجهان في العمق. الأول ناقش الآفاق المستقبليّة للوحدة العربية، والثاني أعاد النظر بالعروبة
بيسان طي
شاءت المصادفات أن تحتضن العاصمة اللبنانيّة مؤتمرَين عن «العروبة»، تعاقبا على الفندق نفسه هذا الأسبوع. الأول نظمه «مركز دراسات الوحدة العربية»، وجاء بعنوان «من أجل الوحدة العربية: رؤية للمستقبل» (23 ـــ 25/2)... والثاني ضجّ به «تيّار المستقبل» المشغول بـ«مستقبل العروبة»، إذ نشر اللافتات، كأنه يدعو إلى مهرجان انتخابي وجء بعنوان «العروبة في القرن الواحد والعشرين» (25 ـــ 28/2)، والأصح «القرن الحادي والعشرين».
ما الذي أعاد بيروت فجأة إلى العروبة؟ هل هي المصادفة؟ أم أن المدينة تبحث عن نقاط ارتكاز بعد ضياع القيم واختلاط المعايير؟ من جهة، أهل «الممانعة» مشغولون بتطوير مرتكزات الفكر القومي استناداً إلى شرعيّة تاريخيّة، ومن جهة أخرى اتجاه سياسي ارتبط في صخب التحولات التي تشهدها المنطقة، بالخيار الأميركي ـــ السعودي، وعاد يبحث فجأة عن شرعيّته (العربيّة) المفقودة، وإن على مستوى الواجهة الخارجيّة.
في ندوة «مركز الدراسات» ذكّر مشاركون بأنّ المشروع القومي العربي «موجود نظرياً»، لكنّه يفتقر إلى أدوات العمل. ورأى آخرون أنّ صعود الإسلام السياسي بتناقضاته، يتنافى مع المشروع القومي. ما عارضه المفكّر طارق البشري، مؤكداً أن التوجّه الإسلامي يرى العروبة من تطبيقات دعوته. أما خير الدين حسيب، المدير العام للمركز، فسلّط الضوء على نقاشات المؤتمر القومي الإسلامي الذي ينظمه منذ سنوات، وقد أفضت إلى برنامج مشترك عن قضية الوحدة والموقف من الولايات المتحدة والقضية الفلسطينية. أما عن تطبيق الشريعة والعلمانية، فاتفق المؤتمرون على «المواطنة» أساساً.
ودار النقاش حول التجارب الوحدويّة خلال القرن العشرين، كذلك نُوقشت مقولات سائدة، مثل اعتبار نمو النزعات المرتبطة بالدولة القطْرية، من العوائق أمام تحقيق الوحدة، وكذلك الاختلاف في أنظمة الحكم والإيديولوجيات والصراع على النفوذ ودور الدول الاستعمارية وإسرائيل.... وقدم برهان غليون نقداً للفكرة التي تصوّر الوحدة وصفاً قائماً في الثقافة لا يحتاج إلى ترجمة إلى اللغة السياسية. بل إنّ هذا التصوّر، برأيه، حدّ من التعمّق في فهم التحديات التي يواجهها أي مشروع وحدوي، وفات كثيرين أن توحيد الأمم صناعة سياسيّة تعتمد على فكرة أيديولوجية. وشدد قحطان أحمد سليمان الحمداني على ضرورة اقتناص اللحظة التاريخية العالمية لبناء واقع عربي جديد، لحظة انتهاء مرحلة ما بعد الحرب الباردة. ومن التوصيات العملية المرفوعة في الندوة إقامة فضائية تلفزيونيّة عربيّة، وحدويّة التوجه تقوم بالمهام الإعلامية بتميّز.
وقبل أن تُسدل الستارة على ندوة المركز، كان تيار «المستقبل» يفتتح مؤتمره الذي سبقته ضجة إعلامية لا تعرفها المؤتمرات الفكرية. معظم العناوين المطروحة قاربت الهموم القومية، والأسئلة التي كانت تطرحها تيّارات عربية. ومن خلال بعض هذه العناوين نشير إلى الرغبة في البحث الجدي عن طروحات عروبية تتماشى مع المستقبل الذي ترتسم ملامحه عالميّاً. وفي هذا الإطار، يجدر التوقف عند الكلمة المهمة لمنسق المؤتمر حسن منيمنة الذي قال إنّ «التحديات التي تواجهها العروبة في يومنا هذا لا تقتصر على سبب واضح بعينه، لا بل إنّ تعيين العلة وتحديد أسباب إخفاقاتنا النهضوية هي الغاية من إثارة ورشة نقاش».
ومن الأفكار المهمة التي طُرحت، تناقض العروبة مع سيطرة تيارات ما دون القومية، كالتيارات الطائفية. لكنّ هذا الكلام لا يتناسب مع ما يروّج له أمثال النائب مصطفى علوش المشارك في المؤتمر، من إضفاء صبغة طائفية محددة على مدن لبنانية. تُحسب للمؤتمر مشاركة باحثين في الشأن القومي كالوزير طارق متري وبرهان غليون وعصام خليفة... لكن كيف نفسّر مشاركة أمثال النائب السابق فارس سعيد الذي يتبنى خطاباً معادياً لكلّ الطروحات العروبية؟ نحمد الله على أن تيّار «المستقبل» لم يدع كل حلفائه إلى المؤتمر.