القرف والفرح والرداءة و«قصص الجنون العادي»

لم تدركه الشهرة إلا في الخمسين. كان غارقاً في بحر من الكحول، متشرّداً، متنقّلاً من حب إلى آخر. كتاب جديد يستعيد قدرات بوكوفسكي على صفع القارئ وإغراقه في الضحك... ويضمّ آراءه بمواضيعه الأثيرة: النساء والكحول وسباق الخيل

زياد عبد الله
«اللعنة» كلمة لا بأس بها للبدء مع الشاعر والكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي (1920 ـــ 1994) والتحلّي بشيء من العمق السحيق المتبوع بسطحية خاصة، ربما الضحك، أو البكاء، القسوة، الرقة، وغيرها من المتناقضات وهي تتوالى في تعقّب له وهو يصرخ «أنا كاتب رديء» ويضيف «ذات مرة سجّلتُ صوتي وأنا أقرأ قصائدي على مسمع أسد في حديقة الحيوان فزأر بعنف، كأنّه يتوجع، والشعراء كلّهم يستمعون لهذا التسجيل ويضحكون عندما يثملون». الرداءة أيضاً، وشيء من اللعنة بدأنا بها، تستوجب منه أن يستدرك في قصيدته «أصوات» ويقول: «أحياناً حتى الكتّاب الرديئون يقولون الحقيقة». إنّها رداءة الحياة نفسها ما ستقع عليه في أدب بوكوفسكي، بذاءاتها، والإصرار على الغناء من قعر الجحيم، وعلى حافّته، وكل ما يدفعه إلى الكتابة.
تجاوزت كتب بوكوفسكي ـــ قبل موته ـــ الخمسين: مجموعات شعرية، وقصصية بعضها يختلط بالقصائد، إضافة إلى ست روايات. ولعل عدد كتبه بلغ الآن ما يتجاوز هذا الرقم بكثير. ففي كل عام، تُطالعنا مجموعة قصائد لم تنشر قبلاً، ويأتي ما أعدّه ديفيد كالوني في «مقاطع من دفتر مبقّع بالنبيذ» («سيتي لايت» ـــ سان فرانسيسكو) بمثابة أحدث مكتشفات كتاباته التي لم تستقر بين دفتي كتاب كونها نُشرت في مطبوعات هامشية ومجلات «بورنو» مثل قصته الأولى «بعد رسالة رفض مطولة».
مع ذلك، يبقى الأمر مفتوحاً على اكتشافات جديدة، غزارته دفعته لأن يحبّ ما قاله ترومان كابوتي عنه «إنّه ينسخ فقط»، أو ما قاله هو عن نفسه: «إنني أتبوّل قصائد»، موصياً في الوقت نفسه الشعراء الإكثار من شرب البيرة، وحب النساء الجميلات، وكتابة أقلّ قدر ممكن من القصائد العاطفية، والذهاب إلى مراهنات الخيل «تراهن وتكسب إن كان بمقدورك، لأن بإمكان أي حقير أن يصبح خاسراً جميلاً».
ليس في أدب بوكوفسكي خطوط فاصلة بين القصيدة والقصة والرواية، جميعها تأتي من جهة واحدة هي الحياة، والبشر بلحمهم ودمهم وروثهم وأوساخهم ونقائهم، فتكوّن مجتمعةً مرآةً تحتشد على سطحها شتى أنواع الصور. وعندما يعود إلى تاريخ ما أو أسطورة، فإنّه لن يقدّمها إلا كما لو أنّه صادفها للتو في الشارع، فهو يستعيد الموسيقي الروسي بورودين بقوله «في المرة المقبلة عندما تستمع لبورودين، تذكّر زوجته التي استعملت مؤلفاته لفرش علب القطط»!
يبدأ روايته «نساء» (1978) «كنت في الخمسين ومضت أربع سنوات لم أتقاسم السرير مع امرأة، لم يكن لدي صديقات، أنظر إلى النساء من دون توق أو جدوى». إنّها علاقته العجيبة مع المرأة، والنساء العجيبات المتناثرات في شتّى أنواع كتبه، فهو يؤمن بأنّ «الحبّ كلب من جهنم» وهو عنوان مجموعة شعريّة كتبها بين 1974 ـــ 1977. هكذا، واصل تنقّله من حبّ إلى آخر، تحبّه امرأة تزرع البندورة في بيتها، وأخرى ترسل له قصائد عن الشهوة والاغتصاب ويتركها عذراء وشاعرة رديئةً، خالصاً إلى الإيمان بأنّ «امرأة لم تفتح ساقيها طوال خمس وثلاثين سنة، سيكون قد فاتها أوان الشعر والحب».
وفي مواصلة لتعقّب الواقع الأغرب من الخيال، سيخصّص قصيدةً في «محترقاً في الماء، غارقاً في اللهب» (أجمل القصائد التي كتبها بين 1955 ـــ 1973) عن رجل وجده يتمشّى وقد بتر عضوه بقطع تنك صدئة صارخاً بالقارئ «ليباركه الله أو أحدهم». وفي مجموعته القصصية «موسيقى المياه الساخنة» (1983)، ستعثر على «الرجل الذي أحبّ المصعد». إنّه مصاب بلعنة المصعد الجنسيّة وكل امرأة تشاركه إياه سيغتصبها، والسبب لا شيء إلا الهيجان الذي يسبّبه له المصعد.
لم تدرك الشهرة بوكوفسكي إلا في الخمسين. كان غارقاً في بحر من الكحول، متشرّداً، متنقلاً من عمل إلى آخر: سائق شاحنة، غاسل صحون، ساعي بريد، عامل مصعد... مبلّلاً بالكحول وسيلين ودوستويفسكي وهمنغواي وميللر، بينما تطفو «حركة البِيت» Beat Generation على سطح الأدب الأميركي وروّادها وليم بوروز وجاك كيرواك وآلن غينسبرغ.
بعد محاولاته العديدة في القصة، كتب قصيدته الأولى في الـ35 وواصلها حتى الرمق الأخير، فاتحاً ذراعيه أمام حياة يتقزّز منها ويلتهمها. حياة ملؤها الفشل والصخب والهزيمة والفرح، يعيش على الحظ كما يقول، وعلى قناعة تامة بأنّ «الفرق بين شاعر جيد وشاعر رديء هو الحظ». في 1955، كان عليه التوجّه إلى نيو أورلينز للتعرّف إلى ناشره جون وب. وقبل أن يغادره بوكوفسكي، صرخ جون في وجهه: «بوكوفسكي أنت سافل، لكنّي سأنشر كتابك». كان هذا طبيعياً جداً، ذلك أنّ بوكوفسكي هو آخر كاتب يمكنه زعزعة إيمان جون الراسخ بأنّ الكتّاب سفلة متى كانوا بعيدين عن الآلة الكاتبة.
لم ينف بوكوفسكي اتهامات بعض النقاد لأدبه بالسطحية والإباحية، ولم يكن يهتم بصعود المواهب البارزة لأنّهم سرعان ما سيكتبون من سيئ إلى أسوأ. كان يكتب ويمضي، بما يشبه العزف المنفرد على آلة كاتبة يصارع بها روحاً شفافة سرعان ما تتسرّب بين السطور وتنقم لكاتبها من كاتبها، بنصوص تلوح وتعانق وتصفع، تتضرعّ بصرخات لا يلبث أن يعلو رنينها.

مقاطع من دفتر مبقّع بالنبيذ



في 1965 وبعد نشر جون ويب «بيديها تمسك قلبي» أولى مجموعات بوكوفسكي الشعرية، كان على هذا الأخير إرضاؤه بكتابة المزيد من القصائد في أحد شهور نيو أورلينز الحارة. «حفنة من القصائد وسيتحسّن مزاجه. وهكذا واصلت الكتابة» يروي بوكوفسكي متابعاً: «سكرنا أنا وجون وزوجته لويز في مطبخه المملوء بالصراصير. كان المكان ضيقاً والصفحات 8،7،6،5 مكدسة في حوض الحمام، لا أحد يستطيع الاستحمام. والصفحات 4،3،2،1 كانت في صندوق كبير للثياب، وسريعاً لم يبق مكان لأي شيء. في كل مكان رزم أوراق بعلو سبعة أقدام ونصف قدم.
كنا نتحرك بحذر شديد. الحوض كان نافعاً لكن السرير أعاقنا، ولذلك بنى جون عليّة صغيرة من الخردوات مع سلّم، ونام جون ولويز فيها ورُحِّل السرير. صار هناك متسع لتكديس الأوراق. بوكوفسكي، بوكوفسكي، في كل مكان .. سأجنّ ... صرخت لويز. الصراصير تدور بينما تتجرع المطبعة قصائد «صليب في يد الموت»». في الواقع، إنّ عناوين كتب بوكوفسكي تشي بمحتواها، إنّه من اقترف «اعترافات رجل مجنون بما يكفي ليعيش مع الوحوش» (1965) و«إلى كل السفلة في العالم وأنا» (1966) و«قصائد كتبت قبل القفز من نافذة الطابق الثامن» (1969) و«اعزف على البيانو سكراناً، كما الآلات النقرية، إلى أن تتقطع أصابعك من النزيف» (1979)، مروراً بـ«قصص الجنون العادي» و«رسائل عجوز قذر» وغيرها الكثير مما لا يزال عاجزاً عن وضع خط نهاية لأعماله، كما سيطالعنا به كتاب ديفيد كالوني «مقاطع من دفتر مبقّع بالنبيذ». إذ إنّه متسلّح بنصوص تحوي كل قدرات بوكوفسكي على صفع القارئ وإغراقه في الضحك، وجعله ينصت تماماً لإيقاع كلماته المأخوذ تماماً بالحياة. إضافة إلى آرائه بمواضيعه الأثيرة: النساء والكحول وسباق الخيل، يتضمّن الكتاب مقالاً لبوكوفسكي بعنوان «قابلت المعلم» عن لقائه كاتبه المفضل جون فانتي صاحب «اسأل الرماد»، وآخر عن همنغواي بعنوان «العجوز السكران الذي فارقه الحظ»، إضافة إلى آرائه بشعر عزرا بوند وفرقة الـ«رولينغ ستونز»...
وبما أنه قليلاً ما كان ينظّر لأدبه فإنّه يقدم في «مقالة تتسكع في الشعرية وحياة نازفة مكتوبة أثناء شرب ستة ليترات ونصف ليتر من الكحول» آراءه المهلوسة بالأدب وتقنيات الكتابة، ودفاعه عن «نمط شعري خاص، ونمط حياة خاص أيضاً، يملأ الإنسان بالحياة التي سيفارقها يوماً» في تأكيد منه على أنّ تناغم الحياة مع الشعر مطلب جمالي، وعلى شيء من «رياضيات النفس والعيش».