مذكّراتها تصدر بعد ٤ سنوات على رحيلها
الكاتبة الأميركيّة التي ترقد في مقبرة باريس، بدأت تدوين يومياتها في الثانية عشرة، مقلّدة أندريه جيد... صدور الدفاتر أخيراً يقرّبنا أكثر من تلك الشخصيّة الإشكاليّة والغنيّة

ديما شريف
حين كانت تحتضر، قالت لابنها الناشر دايفيد ريف، «تعرف أين اليوميات». لم يكذب دايفيد الخبر، وها هي مذكرات سوزان سونتاغ تصدر أخيراً بعنوان Reborn: Journals and Notebooks, 1947 - 1963 لتغطي آخر أيامها في «ثانوية نورث هوليوود» حتى العام الذي نشرت فيه روايتها الأولى The Benefactor. سوزان سونتاغ (١٩٣٣ ـــ ٢٠٠٤) الكاتبة الأميركيّة التي ترقد في «مقبرة مونبارناس» في باريس، والتي أطلق اسمها على أحد شوارع ساراييفو، بدأت كتابة يومياتها عندما كانت في الـ12، رغبة منها بتقليد أندريه جيد الذي كانت تعشقه. هوسها باليوميات، دفعها إلى قراءة «يوميات» كافكا لتغيّر نظرتها إلى جيد وتعتبره «كاتباً لطيفاً». أما «الله» كما كانت تسمي توماس مان، فأصبح فارغاً وسطحياً مقارنة بكافكا، ولم يسلم من هذه المقارنة سوى مارسيل بروست الذي بقيت معجبة به. صديقة رولان بارت، وعشيقة المصوّرة أني ليبوفيتش، ما يميّزها عن معاصريها، إلى جانب خصلة الشعر البيضاء الشهيرة، خوضها في مجالات إبداعيّة وفكريّة وسياسيّة مختلفة. كانت أديبة، وفيلسوفة، وروائية، ومنتجة أفلام وناشطة سياسية عرفت بمواقفها من حرب فيتنام إلى حرب العراق، مروراً بحصار ساراييفو. ما جعل تأثيرها كبيراً على أجيال من الطلاب الأميركيين منذ منتصف الستينيات.
رغم تميّزها كمفكرة وباحثة، بدأت مسيرتها مع روايات وانتهت بها. في سنّ الثلاثين، نشرت روايتها التجريبية «المحسن» وبعدها بأربع سنوات «عدة الموت» (1967). قصتها الصغيرة «الطريقة التي نعيش بها الآن» التي نشرتها «النيويوركر» عام 1986 تبقى حتى الآن النص الأبرز عن مرض السيدا. واستمر نجاح سونتاغ مع «عاشق البركان» (1992) الذي كان على قائمة أفضل المبيعات، ثم نشرت روايتها الأخيرة «في أميركا» عام 2000 عن حياة الممثلة البولونية هيلينا مودجسكا.
رغم نجاح رواياتها، أخذت سونتاغ شهرتها الأكبر من أبحاثها، وخصوصاً تلك التي كتبتها عن الفن والتصوير. في 1977، أصدرت «عن التصوير» الذي أعطى مفهوماً جديداً للكاميرا في العصر الحديث. إذ كانت ترى أنّ الكاميرا تعرّف الغني على المقموعين المستغلين لكنها تزيل الصدمة التي تحدثها الصورة المباشرة.
واجهت سونتاغ سيلاً من الانتقادات عندما زارت مدينة هانوي في عزّ حرب فيتنام في 1968. فكتبت عن مجتمع فيتنام الشمالية بتعاطف وتقدير كبيرين في كتابها «أساليب الإرادة الراديكالية». لكنّها ميزت بوضوح بين فيتنام الشمالية والصين الماوية والشيوعية الشرق أوروبية التي سمتها لاحقاً «فاشية بوجه إنساني». كما أثارت «معارك أدبية» عندما كتبت أنّ «موزار، وباسكال، وشكسبير، والحكومات البرلمانية، وكنائس عصر الباروك، ونيوتن، وتحرير النساء، وكانط، والباليه... ليست شيئاً يذكر في سجلّ الحضارة. العرق الأبيض هو سرطان التاريخ البشري». لكنّها اعتذرت لاحقاً لافتة إلى أنّ ملاحظتها كانت مؤذية لضحايا السرطان!
وأقامت صاحبة «المرض تعبيراً مجازيّاً» الدنيا غداة تعليقها على اعتداءات 11 سبتمبر 2001. تساءلت يومها: «أين الاعتراف بأنّ ما حصل لم يكن اعتداءً جباناً على الحضارة أو الحرية أو الإنسانية، أو العالم الحر، بل اعتداء على من ترى نفسها القوة الأولى في العالم، وهو نتيجة لتحالفات أميركا وأفعالها؟ (...) وإذا وجب استخدام كلمة جبان فستكون ملائمة أكثر لمن يقتل من السماء، استباقياً، أكثر ممن هو مستعد للموت ليقتل غيره. في مسألة الشجاعة، ما يمكن قوله عن مفتعلي مذبحة الثلاثاء أنّهم لم يكونوا جبناء».
تمثّل يوميات سونتاغ اليوم فرصة لإعادة اكتشاف تلك الكاتبة الراديكاليّة التي تقول عن نفسها: «عملت كثيراً كي أجلس مع الرجال إلى الطاولة نفسها»... وللتعرّف إلى ماضي «سيدة أميركا الأولى في الأدب»، هذا الماضي الذي تقول عنه إنّه أعطاها الحرية لتكتب بصوتها.