جريج وحاجي ــــ توما وسمير حبشي وسيمون الهبربيار أبي صعب
ثلاثة أفلام من شأنها أن تختصر السينما اللبنانيّة في ٢٠٠٨: «بدّي شوف» لخليل جريج وجوانا حاجي ــــ توما (تجريبي)، و«دخان بلا نار» لسمير حبشي (روائي)، و«سمعان بالضيعة» لسيمون الهبر (وثائقي إبداعي). والقاسم المشترك بينها، على اختلاف الأساليب والمقاربات، هو الحرب اللبنانيّة. نحن أمام ثلاثة وجوه لها، من زوايا (ومراحل) مختلفة، فيما سؤال واحد يتردد بأشكال شتّى: كيف نقترب من الراهن السياسي والإنساني في لبنان، بتعقيداته التي تبدأ بالانقسام الأهلي، ولا تنتهي عند «الاحتلال» و«الوصاية» و«إعادة البناء» و«المقاومة»...؟
جريج وحاجي ـــ توما يحاولان في «بدّي شوف» اقتفاء آثار العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف ٢٠٠٦. الفيلم يقوم على فكرة بسيطة: كاترين دونوف في لبنان، وتريد أن ترى... تركب النجمة الفرنسيّة في سيّارة مع الممثل ربيع مروّة وخلفهما المخرجان في سيارة أخرى. لكن ماذا ترى؟ ومن أيّة زاوية؟ فالرؤية لم تكن يوماً محايدة. في الضاحية الجنوبيّة لبيروت «يمنع» الفريق من التصوير، وفي الطريق إلى الجنوب اللبناني تعبر الضيفة بحقل ألغام وغارة وهميّة، وفي بنت جبيل يبحث ربيع سدىً عن بيت جدّته. يقتصر حضور دونوف على التثاؤب والحديث عن أهميّة حزام الأمان... ثم تعود إلى بيروت لترعى حفلة خيريّة. في الصحافة الفرنسيّة، هناك من اعتبره فيلماً عن «استحالة الرؤية»، فيما الرؤيا متاحة تماماً لو أن المؤلفين بحثا عنها فعلاً. وذهب بعضهم إلى تصنيف العمل في خانة الـ Road movies. المشكلة أن الطريق كانت قصيرة وسياحيّة بعض الشيء، والرؤيا مشوّشة في أفضل الحالات، والقالب السينمائي كاتالوغاً من الكليشيهات التي تبقى قاصرة عن مقاربة الكارثةمع سمير حبشي الذي قدّم فيلمه الروائي الثاني، بعد ١٦ عاماً على «الإعصار»، تبدو الرؤيا مرتبكة أيضاً، والصورة مهزوزة. الأسباب لها علاقة بالسيناريو، وربّما بخطاب سياسي يتفادى الذهاب إلى نهايته (تعرّض حبشي، رغم توفيقيّته أو ربّما بسببها، لمحاكمات سياسيّة مجحفة). تدور أحداث «دخان بلا نار» بين توقيع اتفاق الطائف واغتيال رفيق الحريري، في مرحلة التسعينيات التي شهدت تحالف بزنس «الإعمار» مع الوصاية السوريّة بمباركة أميركيّة. لكن ملامح الواقع واهية. المتمرّدون على بطش السلطة، لا يتوقف الفيلم عند تحديد حضورهم وخلفيّة نضالهم. والصراع الدائر الذي نكاد نضيع في تشخيص طبيعته، يشير إليه عنوان عريض هو «القمع في العالم العربي»: هذا هو محور الفيلم داخل الفيلم، الذي جاء يصوّره المخرج المصري الشاب (خالد النبوي) في بيروت.
هكذا يقتل موكب السفير الأميركي الناس على طريقه، وتنتقم العشائر من تلك الدولة العظمى بنصب كمائن في قلب بيروت. نشاهد صوراً مضخّمة للتعذيب، ويقبض المونتاج على أنفاسنا، واللوعة تهزّ مشاعرنا، والشريط الصوتي يكاد يجهز علينا شعوريّاً، وتسحرنا كاميرا ميلاد طوق، وتثيرنا سيرين عبد النور، ونلهث خلف «الأكشن» الذي يكاد يكون تحيّة إلى سينما سمير الغصيني... وبعد أن يضيع السيناريو في مبالغاته، ومقارباته الزمنيّة المشوّشة، والمفارقات التي لا يسميها بأسمائها، يهرب إلى خاتمة غرائبيّة ـــ التعميم يعفينا من استيعاب الواقع ـــ بعيداً عن ذلك الواقع بعدما استفدنا من كل جراحه التي ما زالت راهنة وموجعة وتتحكّم في اللاوعي الجماعي.
وأخيراً نصل إلى «سمعان بالضيعة» باكورة سيمون الهبر، ولعلّها الحدث السينمائي في بيروت ٢٠٠٨. بكثير من الشجاعة والرهافة والإتقان (في البناء والحوار والمونتاج والتصوير...)، يسلّط السينمائي الشاب نظرة صادقة ورقيقة إلى الواقع، من خلال قصّة هي جزء من تجربته الشخصيّة. يصوّر الحياة اليوميّة لعمّه سمعان العائد بعد الحرب الأهليّة إلى القرية التي هدمت وهجّر أهلها، ليكون ساكنها الوحيد. يربّي أبقاره في بيت العائلة المهجور منذ «حرب الجبل». كأنما ليقول إن تجاوز جراح الماضي ممكن ومطلوب، رغم المصاعب الكثيرة. إنّه فيلم عن الذاكرة والحرب، يسجّل الواقع بدقّة وشاعريّة وأمانة، يلمس الجرح الجماعي من دون مجاملة... لكنّه في المقابل لا يتاجر بهذا الجرح أو يأخذه إلى خطاب «انعزالي» معيداً إنتاج الانقسام الأهلي، بل بالعكس!
الكاميرا داخل الديكور، تلملم أضغاث الحكاية. الأسلوب يعطي الفيلم شخصيّته ومزاجه الآثر، والمونتاج يمنحه التماسك الدرامي والجمالي والإنساني. قوّة الفيلم أيضاً في صدقه ونزاهته. سيمون الهبر يرى الواقع بوضوح. لا نلمس عنده أيّة نزعة تسوويّة، أو مناورة تسويقيّة، طلباً للإجماع. الفنّان شاهد أوّلاً، ومواطن حاضر في قلب عمله: يقول الأشياء بأسمائها... وهو ما يفتقر إليه الفيلمان السابقان. أليست رؤية الواقع كما هو، شرط أساسي للتصالح معه وتجاوزه؟ «سمعان بالضيعة» من التجارب التي يمكن تصنيفها في مشروع «أركيولوجيا الحرب اللبنانيّة» ما يضعه في مصاف أعمال أساسيّة لمحمّد سويد وأكرم الزعتري وآخرين.