احتفال تراجيدي من خارج النمط الموروثكامل جابر
ساعة من الزمن حبَس خلالها المخرج جواد الأسدي أنفاس المتقاطرين إلى المسرح المنفتح في النبطية لإحياء اليوم العاشر من محرم، بينها تشخيص موقعة كربلاء، في عرض جاء مسرحياً بامتياز، وانتهى بينما الجمهور جالس ينتظر المزيد. ربما هي المرة الأولى التي تخرج فيها «مسرحة عاشوراء» عن النمط التقليدي الموروث؛ هنا، لا سيوف صلصلت، ولا خيول صهلت، ولا غبار فاح ضبابه في أرض الطف، ولا مظاهر للطعنات والدماء والعويل. الحسين هو وحده في المسرحيّة (أدّى دوره الممثّل العراقي جواد الشكرجي) من لحظة وروده آلاف الرسائل لنصرة أهل العراق من حكم يزيد، مروراً بالتغرير برسوله إليهم، وصولاً إلى محاصرته في أرض الطف في كربلاء «أرض الكرب والبلاء»، وقطع الماء عنه وعن عائلته وصحبه ثم استشهاده بعد سقوط أخيه أبي الفضل العباس وابنه علي الأكبر. هي المرة الأولى كذلك، التي يحضر فيها «الحكواتي» المسرحي في عاشوراء النبطية، ليُبلغ مجريات الأحداث والمؤامرات، وتكون البطولة الثانية أنثويةً هي عميدة الرواية في النص المسرحي الجديد، وتمثّلت برئيسة الجوقة كارول عبود. وبين مسلم بن عقيل وعمر بن سعد اللذين أدّى دوريهما سليم علاء الدين، تمرّ الروايات والأحداث في وجوه الممثّلين محمد حجازي (العباس) وعلي القرجولي (الحر الرياحي) وآلان سعادة (الشمر بن ذي الجوشن) وعلي طقش (عبيد الله بن زياد) وفاطمة فقيه (سكينة بنت الحسين) ومحمد عساف وجلال الماشطا وغيرهم. وقد أعدّ موسيقى المسرحية العراقي رعد خلف، فيما صممت الملابس جيزيل خورييقول الأسدي لـ«الأخبار»: «لا يكفي أن نعيد هذه الفكرة على شاكلة النوع النمطي السائد. من واجب المثقفين والثقافة الطليعية التجريبية التأملية الجديدة إعادة كتابة هذه الشخصية، شخصية الحسين. كتابةٌ تقدّم إلى العالم كما فعل بيتر بروك عندما أعاد كتابة الميثولوجيا الهندية في «المهابهاراتا» فقدّمها كمبتكر جمالي ومعرفي جديد. البيئة والشخصيات المحيطة بالحسين هي شخصيات ملتبسة دراماتيكية يمكن أخذها بمعايير كتابية جديدة وإطلاقها بمناخات عرض يمسّ العالم الذي يحتاج إلى معرفة الميثولوجيا العربية والكونية الإنسانية التي تنبثق من تاريخنا. هنا تكمن أهمية مسرحة هذا النوع من الشخصيات، وشخصية الحسين هي على رأس هذه الشخصيات التي تحتمل الكثير من التأويل وإعادة الكتابة، ما يساعد في تكوين الشخصية تكويناً متنوعاً ومتناوباً».
ويضيف: «العمل يشبه فكرة الحلم. منذ زمن بعيد، تنتابني الرغبة في إعداد عمل كبير عن الحسين، هو مثل المسيح والشخصيات الثائرة والإنسانية الكبيرة التي قدّمت وعياً جديداً معرفياً وفلسفياً وتأويلياً للوجود كلّه. عندما قبلت بالعمل هنا في النبطية، فهو لاعتقادي أولاً بأنّ أبناء المنطقة متنورّون ومنفتحون يستطيعون استيعاب مسألة إعادة كتابة هذه الشخصية بمعايير جديدة ومختلفة. لا أريد أن أضع الشخصيّة نفسها تحت موضع البكاء والندب واللطم، بل إنّ هذه الشخصية كبعض الشخصيات القليلة في التاريخ الإنساني التي تحوّلت ـــــ عبر الكتابة الفنية أو النصّ والإخراج ـــــ إلى طاقة خلّاقة في متناول العالم، وينبغي إعادة كتابة وقائع هذه الشخصية وتاريخها ويومياتها لكي تُدفع إلى الحياة. لذا، يجب أن تحمل مدلولات وكودات وإشارات وتفاصيل تعطيها ديناميةً وديمومةً لتمس الثقافة العالمية والأوروبية».
وعن قبول النبطية بالتشخيص التمثيلي لصورة الحسين، يقول الأسدي: «هذا مهم كثيراً. إذ يصعب أن تتجسّد هذه الشخصيّة في بيئات أخرى. أنا وُلدتُ في كربلاء. هناك، وحتى في إيران ودول أخرى، ثمة فيتو وتابو كبير على ظهور شخصية الحسين. لكن على خشبة النبطية، تتوافر درجة كبيرة من التنوّر والفهم العميق الذي يسمح لهذه الشخصية بأن تظهر. إن فكرة إزاحة التابو والممنوع عن هذه الشخصية وحدها تكفي لإطلاق الشخصية على منصات أخرى تتعدى منصة النبطية إلى بيروت ثم إلى منصات عربية فأوروبية. أرغب في عرضها على مسرح «بابل»، تماماً كما فعل المخرج السينمائي البولوني إنجي فايدا بالميثولوجيا المسيحية، عندما أخرج شخصيّة المسيح. وشخصية الحسين تستطيع مثل المسيح أن تكون شخصية كونيّةً قادرة على تجاوز الحدود والبيئات لكي تتنفس من الرئة الكتابية ورئة العرض الإنسانية العامة لكي لا تكون محدودة ومحصورة وتسجن في طائفة واحدة». ويضيف: «ستكون المسرحية اختباراً أولاً لعرض كبير أفكّر فيه، يحمل شعارات شعرية عالية وأخذت فيها مسار شخصيتي الإمام الحسين ومسلم بن عقيل. في العمل المسرحي، لا يمكن الأخذ بكل الشخصيات، لأنّ كل شخصية حول الحسين عبارة عن تركيب عميق الغور، وإلا نحتاج كما فعل بيتر بروك إلى 11 ساعة من العرض. قدّمنا هنا في النبطية ساعةً واحدةً، ومركز هذه الشخصيات هو الحسين. هذا الأخير هو شخصيّة حياة لا شخصية موت. شخصية تطلب الوجود والتأمل والفكر وتبحث عن الحق. أخذتُ الجانب الذي يمس الناس والشريحة الأوسع من الطوائف ويمضي باتجاه الجميع».

مسرحة عاشوراء... هل هي ممكنة؟وعن نص المسرحيّة، يقول: «قُدم إليّ النص لكنّني لم أتمسّك به تمسّكاً نهائياً. كما يقولون بالمعنى الدراماتورجي، إنّ إعادة كتابة النص سمحت لي بأن أتنفس وأتقدّم خطوةً باتجاه شخصيّة الحسين».
يُذكر أنّ عام 2004 شهد تحولاً في «مسرحة» عاشوراء البالغة نحو قرن في مدينة النبطية، لتتجسّد احتفاليةً تعتمد على الصوت والمشهد والسينوغرافيا؛ إنّها المسرحيّة التي أخرجها، للمرة الأولى، اللبناني رئيف كرم ونفذّها مع ممثلين محترفين. إذ أدى دور الحسين الممثل عمار شلق، فيما أدّى علي طحان شخصيّة أخيه العباس، وأدى خالد السيد دور عمر بن سعد، فضلاً عن ممثلين لبنانيين محترفين ومحليّين تقليديّين. دخلت على الاحتفالية المسرحيّة تعديلات مشهدية بصرية، فضلاً عن حوارات سمعية بحت. أما الموسيقى التصويرية ـــــ من قرع للطبول وألحان عاشورائية ـــــ فحملت توقيع الموسيقي المغربي نجيب شيرادي. هذا إضافة إلى عناصر سينوغرافية ضخمة، من دمى كبيرة وشاشات وجوقات «اللطم والندب». وتخللتها مبارزات من على ظهور الأحصنة، وأُدخل إليها العنصر النسائي لأوّل مرة منذ تاريخ تشخيص موقعة «الطف» في النبطية... هكذا جسّدت دور عقيلة بني هاشم، السيدة زينب، الممثلة وفاء شرارة. وكانت للمخرجين مشهور مصطفى وحسام الصباح محطات في بلورة بعض عروض المسرحية في النبطية. لكن لم يكتب لها الديمومة، بل كانت العودة دائماً إلى المسرح الشعبي المحلي السائد. وهنا يدور السؤال حول مصير الجديد الذي قدمه جواد الأسدي، وربما لم يحظ بالتأييد «الشعبي» المتربّي على المسرح الموروث منذ نحو مئة عام.