عودة الشاب النحيل الذي صار رمز «الرجل الجديد»

خرج من معطف الثورة الطالبيّة في 1968، واتّخذته الحركة النسائية رمزاً لـ«ذكورية غير متسلّطة»، وتنازع عليه سينمائيّو «الموجة الجديدة»... المغنّي الإشكالي المتمسّك بمدرسة الـ«أغنية الفرنسيّة» يعود بأسطوانة جديدة

باريس ــــ عثمان تزغارت
في الرابعة والستين، يبدو المغني الفرنسي ألان سوشون أشبه بكائن خرافي قادم من عصر آخر. بفضل هذا الفنان المشاكس، استطاعت «أغنية النص» الفرنسية أن تحتفظ بمكانتها وتألّقها، وتصمد أمام الموجات والمُوضات الغنائية المتتالية. من تيار الـ«روك إند رول» الجارف في الستينيات، إلى إعصار الراب الذي تربّع على عرش الغناء الشبابي منذ مطلع التسعينيات، تعرّضت الساحة الفرنكوفونية لتحوّلات عدة جعلت كثيرين يتنبّأون بأنّ إرث جاك بريل وجورج براسنس وليو فيري آيل إلى الاندثار، وأن ما يعرف بـ«أغنية المؤلّف»، وهي أغنية المؤلّف القائمة على النصّ، باتت جزءاً من «ماض ذهبي» انقضى بلا رجعة... لكنّ شاباً نحيف الجسم ومعتلّ الصحة، اسمه ألان سوشون، خرج من معطف الثورة الطالبية في صيف الـ68، ليبعث نفساً جديداً في هذه المدرسة الفنيّة العريقة.
لم يكن الشاب الخجول، والمتلعثم في بداياته، يحمل تلك الثورية الوجودية التي ألهبت أغاني بريل، ولا الروح الهجائية اللاذعة التي صنعت شهرة براسنس. كان أقرب إلى النفس الملحمي المسكون باليوتوبيا الفوضوية الذي عُرف به ليو فيري. لكنّ سوشون كان يفتقد تلك الكاريزما الآسرة التي يحظى بها «الأسد العجوز». كانت نصوص سوشون، مثل جسده، متعثرة وخجولة. لذا، لم يكن أحد يراهن عليها في البداية ـــــ رغم شاعريتها وتميّزها ـــــ أو يعتقد بأنّها ستجد مثل ذلك الصدى لدى جمهور «أغنية النص» الذي اعتاد الأصوات الصادحة ذات الكاريزما المدوّية.
لكنّ سوشون قفز إلى الواجهة دفعةً واحدةً، حين أطلق ألبومه الشهير Allo maman Bobo الذي اشتكى فيه لأمه، بنبرة طفولية متعمّدة، من قسوة عالم الكبار، والشك الوجودي الذي يسكنه كرجل حيال الأنوثة الستينية المتحرّرة. لم ينجح ذلك الألبوم غنائياً فحسب، بل جعل سوشون يتحول إلى رمز لـ«الرجل الجديد» الخارج من رحم الثورة الاجتماعية الستينية، «رجل لا تحلم النساء بالاحتماء بعضلاته المفتولة، بل بمواساته والعطف عليه والاعتناء بجسده الضعيف والمعتلّ»، على حد تعبير سوشون نفسه.
تلقّفت الحركة النسائية تلك الرمزية، وسعت لجعلها مرادفاً لـ «ذكورية غير متسلّطة»، وتنازع أقطاب سينما «الموجة الجديدة» رمزية هذا «الرجل الجديد» واستوحوا منه في أفلامهم بطلاً ذكورياً مغاير المواصفات. وذهب بعضهم إلى حدّ إسناد دور هذا «الرجل الجديد» إلى سوشون نفسه، حيث مثّل في أفلام شهيرة عدة، من «الحب الهارب» لفرنسوا تروفو إلى «الصيف القاتل» لجان بيكر، مروراً بـTout feu, tout flamme لجان بول رابنو...
رغم الشهرة السريعة التي اكتسبها سينمائياً، لم يلبث سوشون أن قرّر التفرّغ لحبّه الأول: الغناء. ومع ذلك، فقد ظل فناناً مقلّاً جداً، إذ لم يُصدر على مدى ثلث قرن سوى 12 ألبوماً غنائياً، أشهرها Bidon (زائف ـــــ 1974)، Jamais content (غير راض أبداً ـــــ 1977)، Ultra moderne solitude (عزلة عصرية جداً ـــــ 1988)، Foule sentimentale (جمهور عاطفي ـــــ 1995)...
وها هو بعد أربع سنوات من الغياب منذ «حياة تيودور» (2005)، يسجّل عودةً مدوّيةً بعمل جديد يحمل عنوان Écoutez d›où ma peine vient «اسمعوا من أين تأتي معاناتي» (Virgin /EMI). بعدما أعطى الانطباع بأنّه قرّر الاعتزال طوعاً «قبل أن تداهمني أعراض الشيخوخة، فأقترف ألبوماً زائداً عن اللزوم». فُوجئ محبّوه بأغنية جديدة ألّفها وطرحها مجاناً على موقعه الإلكتروني، خلال الربيع الماضي، تحت عنوان «مظلات ذهبية»، انتقد فيها الشطط الليبرالي، وتنبّأ بالأزمة المالية التي عصفت بالأسواق العالمية بعد ذلك التاريخ بأربعة أشهر... وإذا برواج تلك الأغنية يعيد إلى سوشون شهيته للتأليف والغناء تدريجاً. وكانت النتيجة أسطوانةً تضم عشر أغنيات مسكونة، كالعادة لدى سوشون، بالغضب والتمرد والقلق الوجودي. لكن هذا الألبوم يحمل سمة أساسية أخرى هي النوستالجيا المشوبة بالشجن الرومانسي، حيث يستعيد صاحب «عزلة عصرية جداً» محطات حميمة في حياته ومساره الفني. ومنها محطة مؤثرة دفعته إلى تأدية إحدى أغنيات الألبوم بالعربية، تحت عنوان «سيدي فرج» بلكنة لا تخلو من الطرافة، لكونه حفظ كلماتها حرفياً، لأنه لا يتقن العربية!
في هذه الأغنية، يستعيد سوشون ذكرى حفلة غنائية أحياها في مسرح الهواء الطلق في بلدة سيدي فرج الشاطئية، في الضاحية الغربية للجزائر العاصمة، خلال صيف 1999. كانت الجزائر آنذاك خارجة للتو من أتون عشر سنوات من الحرب الأهلية. وحين لبّى سوشون تلك الدعوة، كانت لا تزال ماثلة في ذهنه صور المجازر البشعة التي قضّت مضاجع الجزائريين قبل عام واحد، في ربيع وصيف 1998. لذا، كان قلقاً من ردّة فعل الجمهور الجزائري، لكنّه فوجئ بآلاف الشباب يردّدون أغانيه التي حفظوا كلماتها عن ظهر قلب. «كانت حفلة لا تُنسى. لذا، أردت تخليدها من خلال هذه الأغنية التي كتبتُها بالفرنسية، ثم طلبتُ من زهرة هندي ترجمتها وتلقينها لي صوتيّاً، كي أؤديها باللغة العربية. قدمتها تحيةً لهؤلاء الشبان الجزائريين الذين غنّوا معي بحماسة في سيدي فرج، قبل عشر سنوات».