عمر من المعارك الأدبيّة والرهان على المستقبل

التفاؤل الثوري لازمه حتى الرمق الأخير. صاحب «في الثقافة المصريّة» انتهج النضال فلسفة حياة، متسلّحاً بالمادية التاريخيّة والنزعة النقديّة والفكر العقلاني الجدلي. فجر السبت، في القاهرة، سكت قلب الناقد والمثقف (1922 ـــ 2009) الذي تختصر مسيرته تحولات عصر كامل في التاريخ المصري

محمد شعير
قبل سنوات، التقى الشاعر محمود درويش الناقد محمود أمين العالم في بهو أحد فنادق دبي، خلال تسلّمهما جائزة «سلطان العويس». سأله درويش عن سرّ شبابه وحيويته، فضحك العالم مجيباً: «شاغبوا تصحوا!». وهذه العبارة يمكن أن تلخّص مسيرته كلّها. المشاغبة هي سرّ هذا الناقد والمفكّر الجدلي الذي رحل أول من أمس في القاهرة عن 78 عاماً. المعارك تكاد تشكّل العمود الفقري لمسيرته بكل محطاتها. معارك كثيرة أدّت إلى فصله من الجامعة بعد أزمة الديموقراطية عام 1954... وأصبح نزيلاً لسجون مصر المحروسة لسنوات بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي في عهد عبد الناصر... وقضى سنوات أخرى في المنفى متنقلاً بين لندن وباريس بعدما أُسقطت عنه الجنسية المصرية في عهد السادات. وقد كان يواجه الأزمات كلّها بتلك الابتسامة الطفولية التي لم تفارقه حتى رحيله. بقي متفائلاً بالمستقبل حتّى في أحلك الظروف، تماماً كما بقي مسكوناً بشغف بالحياة حتّى أيامه الأخيرة.
وصف محمود أمين العالم نفسه يوماً بأنّه «مريض بالتفاؤل». لا يهدأ فكرياً. يصعب أن تقام ندوة في القاهرة، ولا تجده أول الحاضرين. إن لم يجلس على المنصّة، سيشارك في الحوار والحديث والنقاش. لا يفقد ابتسامته، وإن احتدّ النقاش. يوم الثلاثاء الماضي، قبل رحيله، اتجه إلى المجلس الأعلى للثقافة مشاركاً في ندوة أقامها «صالون عبد الرحمن بدوي الفكري» عن «تأثيرات الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد»، وقد احتفى به المشاركون كما لو أنّه اللقاء الأخير معه.
ومنذ أسبوعين، أقامت «دار الكتب» ندوةً لتكريمه تحدث فيها عن مشواره النقدي. وقد وجّه إليه سيد البحراوي يومذاك، نقداً عنيفاً، إذ اعتبر الندوة فرصة لمراجعة الإنجاز الفكري الذي قدمه صاحب «في الثقافة المصرية». توقّف البحراوي عند تناقضات الناقد البارز: «نحن في حياة محمود أمين العالم إزاء نقيضين غريبين: إما في غياهب السجون أو في لقاء حميم مع أعلى قيادة في حكم البلاد المصرية والعربية. من رئاسة تحرير مؤسسة صحافية كبيرة إلى الطرد من البلاد والحرمان من الحقوق الوطنية والقانونية. نحن إزاء حالة إشكالية تصل حدّ التناقض الحاد بين مفرداتها. هو شخص ومثقف إشكالي بمعان متعددة، لأنّه يمثّل أزمةً حقيقيةً في تاريخ النضال الوطني والطبقي في مصر. ليس فقط لدى القوى الاشتراكية عبر تاريخها، بل لدى مجمل المثقفين الوطنيين».
ابتسم العالم وهو يسمع هذه الاتهامات، وطلب من منظّمي الندوة تخصيص لقاء آخر للرد عليها وتوضيح وجهة نظره أمام إشكاليّة «الثقافة والسلطة». إذ علينا «أن نعمل في ظل الشروط القائمة، ونستفيد منها في ظل الظرف المتاح»، كما اعترف لمن يحيط به من مثقّفين وكتّاب ومهتمّين.
ولد محمود أمين العالم في 18 شباط (فبراير) 1922، حين كانت مصر لا تزال تعيش أجواء الثورة التي قادها سعد زغلول. تلك الثورة التي التفّ حولها الشعب بكلّ أطيافه، ولدت معها أيضاً «حقبة ليبرالية انفتحت على الغرب»، وجعلت حرية التعبير إحدى ركائزها. وهو ما أدى إلى قيام أول تنظيم يساري في مصر بعد عامين فقط من ميلاد العالم في الدرب الأحمر، أحد أحياء القاهرة. كانت البداية، كعادة الأطفال في ذلك الوقت: الالتحاق بالكتاتيب لحفظ القرآن، ثم بـ«مدرسة النحاسين الابتدائية» حيث زامل جمال عبد الناصر الذي كان يكبره بعامين. هناك تعرّف إلى «صديق» قاده إلى مكتبات شارع الأزهر، حيث قرأ السير الشعبية. لكنّ التغيير الأكبر كان عندما وقع على كتاب بالإنكليزية عن نظرية التطوّر لداروين (رسالته للماجستير عن فلسفة المصادفة ونظرية التطور)، كما كان لشقيقه شوقي الأثر الأكبر في تكوينه الفكري. قاده إلى التمرّد، وكان يصحبه معه في التظاهرات، وحبّبه بالأدب والفلسفة التي اختار أن يدرسها في جامعة القاهرة. هناك، كان اللقاء مع طه حسين الذي جاء منعطفاً حاسماً في حياته. خلال إحدى المناقشات بينهما، قال له العميد: «إنكّم تتحدثون دائماً عن الثورة، لكنكّم لا تتقنون فنّ العمل الثوري». هذه العبارة جعلته يقترب من التنظيمات الماركسية السرية... وتمّ تعيينه معيداً في قسم الفلسفة، وأنجز بالفعل رسالته للماجستير. لكن مع قيام ثورة يوليو، بدأ خلاف عميق بين تيّارات اليسار، انتهى إلى ما سُمّيَ «مذبحة أساتذة الجامعة» إذ قام «جنرالات الثورة» عام 1954 بفصل 300 أستاذ وسجنهم وتعذيبهم لخمس سنوات. وكان مدهشاً أنّ العالم لم يكن يحمل ضغينةً سياسيةً لعبد الناصر رغم التعذيب، حتى إنّه كان يؤكد «أحبُّ عبد الناصر رغم أنّ آثار تعذيب زبانيته لا تزال على جلدي».
بعد خروجه من المعتقل، تصالح العالم مع الثورة بعد الموافقة على حل الحزب الشيوعي المصري. هكذا عمل في مجلة «المصوّر» الأسبوعية، ثم أصبح رئيساً لمجلس إدارة «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، فرئيساً لمجلس «إدارة مؤسسة المسرح والموسيقى والفنون الشعبية». والتقى عبد الناصر الذي أسند إليه مهمة رئاسة مجلس إدارة مؤسسة «أخبار اليوم». ويروى أن عبد الناصر حذّره، خلال اللقاء، من مغبّة تحويل الجريدة إلى «برافدا»، في إشارة إلى الجريدة الروسية الشهيرة.
بعد وصول السادات إلى السلطة، بدأ عهد جديد من الصدام مع السلطة، ووجّهت إليه تهمة الخيانة العظمى، فأُلقي في السجن. بعد الإفراج عنه، سافر إلى جامعة «أوكسفورد» في بريطانيا للعمل، ثم اتصل به صديقه المفكّر الفرنسي جاك بيرك (1910 ــــ 1995)، واقترح عليه التوجّه إلى العاصمة الفرنسيّة، حيث بقي عام 1984 مدرّساً لمادة الفكر العربي في جامعة السوربون. وقد أسّس هناك مجلة «اليسار العربي»، كما شارك في تأسيس «الجبهة الوطنية المصرية المناهضة لسياسة السادات» ما أدى إلى إسقاط الجنسية المصريّة عنه.
عندما تولى حسني مبارك السلطة، جرت مفاوضات مع المثقّفين المصريين في الخارج، قادها مستشار الرئيس حينها أسامة الباز. وقد أدت إلى عودة العالم ورفاقه من منافيهم المتعددة، فيما اعتبرت وقتها «صفقة مع النظام الجديد». هكذا عاد عبد المعطي حجازي رئيساً لتحرير «إبداع» وصحافياً في «الأهرام»، وغالي شكري رئيساً لتحرير مجلة «القاهرة»... أما العالم فأسّس مجلة «آفاق فكرية»، وتولّى رئاسة لجنة الفلسفة في «المجلس الأعلى للثقافة»، وحصل على جائزة الدولة التقديرية.
سيرة حياة حافلة يمكن تلخيصها في عبارة «الإنسان موقف»، وهو عنوان أحد كتبه المهمة. ويمكن أن نضيف أيضاً هذه الكلمات: «التسامح والمستقبل» لتلخيص هذه الحياة.

المثقّف الماركسي و«المشروع النهضوي العربي»



كان أول ظهور قويّ لمحمود أمين العالم عام 1954، عندما كتب مع صديقه ورفيق دربه عبد العظيم أنيس مقالات عدّة رداً على طه حسين وعباس محمود العقاد حول دور الأدب. يومها، وجّه لهما طه حسين رداً قاسياً بعنوان «يوناني فلا يقرأ». وهي جملة تعبّر عن صعوبة فهم ما كان يكتبه الناقدان وقتها.
بعد عام من نشر المقالات، جمع الناقد اللبناني محمد دكروب المقالات ونشرها في كتاب «في الثقافة المصرية» الذي قدّم له الراحل حسين مروة. وقد أحدث الكتاب ضجةً كبيرةً لدى صدوره، واعتُبر بمثابة إعلان عن ولادة مدرسة جديدة في النقد الأدبي هي المدرسة الماركسية، وكان لظهوره وقع الانفجار المدوّي في الساحة الأدبية والسياسية آنذاك... وما زال مؤثراً حتّى الآن في بعض الأوساط الفكريّة والثقافيّة التي تدور في فلك الماركسية.
في الكتاب، شنّ العالم وأنيس هجوماً شديداً على نجيب محفوظ. وصفاه بأنّه كاتب البورجوازية الصغيرة المحبطة والطبقات الوسطى. ورغم أنّ الكاتبين عادا لاحقاً عن موقفهما من صاحب «نوبل»، إلا أنّ الفكرة انتشرت بين أجيال جديدة من اليسار المصري. وعندما أعيد طبع الكتاب مرةً أخرى بمقدمة جديدة، اعتبر «الابن الشرعي لمرحلة حية من مراحل الغليان والتحول الإبداعي والفكري خلال الأربعينيات وبداية الخمسينيات».
لم تكن معركة «الثقافة المصرية» طبعاً، هي الوحيدة التي خاضها العالم خلال مشواره النقدي... بل إنّه لم يتوقّف عن إثارة الجدل خلال تلك السنوات، من خلال مناقشات مستفيضة حول الفكر العربي الحديث، عبر خمسة كتب: «معارك فكرية» (1965)، «الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر» (1986)، «مفاهيم وقضايا إشكالية» (1989) « الفكر العربي بين الخصوصية والكونية»، وأخيراً « من نقد الحاضر إلى إبداع المستقبل». واعتبرت هذه الكتب بمثابة مساهمة فى بناء المشروع النهضوي العربي، وهي معركته الأساسية تقريباً راهن فيها على المستقبل.
في عام 1972، خاض العالم معركة أخرى بكتابه عن «ماركيوز أو فلسفة الطريق المسدود»، امتطى فيها حسب تعبير الناقد عاطف فتحي «جواد الماركسية متسلّحاً بالمادية الجدلية والخبرة العلمية والنضالية في الحياة». انتقد العالم في كتابه فلسفة هربرت ماركيوز التي رفعت «شعارات التمرد على كل نظرية وإيديولوجيا». وقد أصدر العالم العديد من الكتب عن الجيل الذي سبقه مثل «توفيق الحكيم مفكراً وفناناً»، «تأملات في عالم نجيب محفوظ»... كما تابع وقتها الكتابات الجديدة، وكان من أوائل مَن كتبوا عن جيل الستينيات في الثقافة المصرية، بل خصص كتاباً كاملاً عن صنع الله إبراهيم بعنوان «ثلاثية التمرد والرفض»، وقدّم الأعمال الأولى لجمال الغيطاني ،ولم يتوانَ عن مواكبة تجارب الكتّاب الجدد في مصر على اختلاف أجيالهم.