الأسطورة الرحبانيّة تستردّ آخر رموزها بيار أبي صعب
كنا نذهب في السنوات الأخيرة إلى المؤتمرات الصحافيّة لرؤيته. نجده جالساً إلى المنصّة، وقد ازدادت عليه آثار العمر وأمارات الوهن. نتذكره الآن مطرق الرأس، متأملاً أو شارداً أو مصغياً إلى المداخلات والأسئلة التي تخرجه عن هدوئه أحياناً، يحيط به مدير مهرجان الصيف الذي يقدّم مسرحيّته الغنائيّة الجديدة، وممثل وزارة الثقافة، والنقيبان (الصحافة والمحررين) أو أحدهما، وغالباً ابنه مروان... وفي وقت من الأوقات ـــ كان علينا أن نترصّده بعناية ـــ يمسك «الأستاذ منصور» بورقة، ويروح يقرأ، بصوته الشهير، تقديماً شاعريّاً للعمل الذي أعدّه مع قبيلته الصغيرة، وقد باتت تعرف بـ«الرحابنة الجدد».
كلّ مرّة كنا نكتشف، قبل الآخرين، إنتاجاً «رحبانياً» آخر، مع موكبه من النجوم، والاستعارات التاريخيّة والأدبيّة والأسطوريّة، والإحالات السياسية المبطّنة، سيشغل النقد والإعلام والجمهور موسماً كاملاً وغالباً أبعد منه: كما هي الحال اليوم مع آخر أعماله «عودة الفينيق»، المسرحيّة الغنائيّة التاريخيّة الراقصة التي افتتحها في بيبلوس الصيف الماضي، ما تزال تقدّم على خشبة كازينو لبنان.
وكلّ مرّة، كنّا نقمع في داخلنا سؤالاً ملحّاً يتبادر إلى الذهن بشكل لاإراديّ، ولا نجرؤ على سماعه أو الإجابة عنه: ترى هل هذا هو «لقاؤنا» الأخير بهذا الأسد العجوز؟
منذ صباح أمس نعرف أن ذاك الموعد لن يتكرّر، لن نسرع إليه مسكونين بكثير من الحنين والتعاطف والفضول... وبنزعة إلى المشاغبة والانتقاد وتعرية الأسطورة أحياناً، كما هو حقنا وواجبنا. فقد أغمض منصور الرحباني عينيه نهار الثلاثاء 13 كانون الثاني/ يناير 2009. مضى إلى حيث عاصي وحليم الرومي وفيلمون وهبي وتوفيق الباشا وزكي ناصيف... كبار الموسيقى اللبنانيّة، حاملاً معه أشياء كثيرة لن تتكرّر، وربّما جزءاً مهمّاً من صورة وطن جميل ابتلعه الوهم. هكذا تطوى صفحة أخيرة من سجلّ ذهبي، ربّما لم يعرف لبنان مثله خلال تاريخه الحديث، نختصره عادة بـ«المؤسسة الرحبانيّة»، أو مدرسة الرحابنة بأقانيمها الثلاثة: عاصي ومنصور وفيروز، ومن دار حولهم من فنانين وشعراء ومبدعين. تلك المؤسسة التي تماهت مع لبنان نفسه في بعض الأحيان، إذ قدمت عنه صورة مثاليّة ونموذجيّة، وحملته إلى العالم العربي «ثورةً» موسيقية وشعريّة وغنائيّة تلتقي عندها المناهل الثقافيّة من الشرق والغرب، ومشروعاً جمالياً وأخلاقياً ورومنسياً يصعب الشفاء منه، أو لنقل تجاوزه، بسهولة.
تلك الرحلة بدأها عاصي (1923 ــــ 1986) ومنصور (1925 ــــ 2008) يستمعان إلى الوالد حنا الياس الرحباني يعزف البزق في مطعم «فوّار» انطلياس، وإلى حكايات الجدّة غيتا وخرافاتها وزجلياتها... ثم منغمسين في تلك البيئة الريفيّة التي ستخيّم على عالمهما الإبداعي طويلاً. معاً ذاقا طعم العوز، وحلما بالمجد، «كان يبدو على عاصي أنّه سيصبح شاعراً أو فناناً... أما أنا، فكنت أوحي بأنني سأكون قاطع طريق في أفضل الأحوال». من جوقة الأب بولس الأشقر إلى الشغف بالمسرح الذي تعرّفا إليه في مدرسة فريد أبو فاضل، ثم مدرسة اليسوعيين في بكفيا... وبالشعر الذي اكتشفاه في مجلّة «المكشوف»، إلى الإطلالات الأولى في إذاعة دمشق وإذاعة الشرق الأدنى. معاً عملا في سلك الشرطة، ثم واصلا دراسة الموسيقى على يد برتران روبيّار. الإذاعة اللبنانيّة، حليم الرومي، زواج عاصي من فيروز (نهاد حداد) التي حلّت مكان اختهما سلوى (أو «نجوى» حسب اسمها الفني). مهرجانات بعلبك منذ عام 1957. صباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين وفيلمون وهبي... القاهرة وفلسطين، دمشق وبعلبك والأرز والبيكاديللي. سعيد عقل. السينما أيضاً: «بياع الخواتم» (يوسف شاهين)، «سفر برلك» و«بنت الحارس» (هنري بركات)... العامية اللبنانيّة تسافر في ديار العرب على جناح صوت فيروز. وصولاً إلى ذلك النزف في رأس عاصي ثلاث سنوات قبيل اندلاع الحرب الأهليّة. كان منصور دائماً هنا في قلب التجربة. بعد وعكة عاصي صار نصفه الآخر فعلاً، ومنفّذ رؤيته ومجسد وعيه على الورق.
الآن، وقد التحق منصور بالأسطورة الرحبانيّة، صارت تلك المؤسسة جزءاً من التاريخ حقّاً. لقد تزعزعت في قلب حرب أهليّة من غير الممكن أن تتعايش معها لأنها نقيض الفلسفة الطوباويّة (التغريبيّة؟) التي قام عليها عالم الرحابنة من أساسه. تكرّس الخلل مع انفصال فيروز عن «الأخوين رحباني» أواخر السبعينيات. ثم تصدّعت بذهاب عاصي الأخ الأكبر الذي كان يخترع لمنصور الذي يصغره بسنتين، حكايات وخرافات في «العلّية» حيث يعتقلهما الوالد القاسي منعاً لاختلاطهما بزعران الحارة. منذ ذلك اليوم من حزيران/ يونيو 1986 فقد منصور شيئاً منه. مات نصفه إذا جاز التعبير، فكان عليه أن يستأنف المغامرة على أسس جديدة. بلا فيروز التي كان الأخوان قد استعاضا عنها أساساً بـ«رونزا» في «المؤامرة مستمرّة» (1980) ثم «الربيع السابع» (1984). ومن دون عاصي رفيق رحلته الملحميّة على امتداد نصف قرن.
هكذا أمضى منصور الربع الأخير من حياته يعيد اختراع المدرسة الرحبانيّة... لكن الأزمنة كانت قد تغيّرت، ولبنان والمنطقة أيضاً. وسنوات الوحي والخصوبة باتت بعيدة، فلم يبق أمام المعلّم سوى ابتكار آلة إنتاجيّة تعيد توظيف إنجازات العصر الذهبي. مرحلة مستحدثة تماماً، ينقصها الوهج القديم حكماً، راحت تتبلور مع السنوات، بدءاً بـ«صيف 840» (1988) التي يمكن اعتبارها مسوّدة الأعمال اللاحقة: من «آخر أيام سقراط» (1998) إلى «عودة الفينيق» (2008)، مروراً بـ«المتنبّي» (2001)، و«ملوك الطوائف» (2003)، و«نبيّ جبران» (2005)، و«حكم الرعيان» (2004)، و«زنوبيا» (2007)... تدريجاً سينخرط مروان الرحباني في الإخراج، ويتشارك مع أخويه أسامة وغدي في التأليف والتلحين، ويخوض الجميع في الكتابة تحت هالة منصور، المهندس الأكبر صاحب الفكرة والمشروع. وكما لن نعرف أبداً ماذا يعود إلى عاصي وماذا يعود إلى منصور في نتاج السنوات الذهبيّة شعراً ولحناً ومسرحاً، كذلك سندخل مع «الرحابنة الجدد» في معادلة خاصة، سريّة، ننسبها كل مرّة إلى منصور وأبنائه (مع مساهمات موسيقية من العمّ إلياس أحياناً).
كثيرون سيعتبرون أنها مرحلة انحدار في التاريخ الرحباني، لأنّهم لن يقبلوا أن الزمن تغيّر، وعاصي صمت، وفيروز مضت إلى آفاق أخرى (مع زياد خصوصاً)، لتقف في مكانها كارول سماحة تارة، ولطيفة تارة أخرى (وصولاً إلى هبة طواجي/ روكسانا «عودة الفينيق»). هناك من افتقد منذ أواخر الثمانينيات، تلك اللمعة العبقريّة التي كانت تربط بين العناصر، وتدرج الأوبريت بحواراتها وأغنياتها وقصّتها وشخصيّاتها في سياق ثقافي وسياسي وإيديولوجي هو من سمات الستينيات والسبعينيات: «جسر القمر» (1962)، و«بياع الخواتم» (1964)، و«أيام فخر الدين» (1966)، و«هالة والملك» (1967)، و«جبال الصوان» (1969)، و«يعيش يعيش» (1970)، و«صح النوم» (1971)، و«ناطورة المفاتيح» (1972)، و«ناس من ورق» (1972)، والمحطة» (1973)، و«لولو» (1974) و«ميس الريم» (1975)، و«بترا» (1978) والقائمة تطول...
لكن أعمال منصور خلال العقدين الأخيرين تنتمي إلى زمن آخر، واعتبارات ثقافيّة وسياسية وإبداعيّة واقتصاديّة مختلفة. هناك انعكاس بعيد للرحابنة بلا شك، لكننا أمام أسلوب آخر تماماً، وأعمال غوص في كتب التاريخ والأدب والأسطورة بحثاً عن قراءات ممكنة للحاضر، وسط مناخ من الإسراف الجمالي والتقني الذي جعل الثلوج تمطر على «المتنبّي» وقرية كاملة تحترق حين وقفت «زنوبيا» تتمرّد على طغيان الإمبراطوريّة الرومانيّة. والعملان الأخيران أنتجا في دبي حيث قدمت عروضهما الأولى.
كان منصور الرحباني يرفض دائماً أن نستخلص العظة الأخلاقيّة أو السياسية من أعماله الأخيرة، بعد أن يكون فعل كل ما بوسعه كي يدفعنا إلى ذلك. إنّه لعبة ذلك الساحر الذي يعبث بالشخصيات والمواقف، بالأحداث التاريخيّة والأساطير، ويبالغ في تمجيد لبنان «الوطن الجريح والمستضعَف والمغلوب على أمره في حرب الكبار». نعم تلك من بقايا الإيديولوجيا الرحبانيّة، علماً بأن منصور شاعر أصدر مجموعات عدّة، معظمها خلال السنوات الماضية، وصاحب «أسافر وحدي ملكاً» يجوز له ما لا يجوز لسواه... وخصوصاً أنّه كان آخر أعمدة الهيكل الرحباني الذي انهار اليوم تماماً ليتركنا في العراء.


يودع لبنان الفنان الراحل منصور الرحباني، في مأتم رسمي وشعبي عند الثالثة من بعد ظهر الجمعة المقبل، في كنيسة مار الياس ـــ انطلياس. وتقبل التعازي ابتداءً من اليوم الأربعاء ولغاية الأحد من العاشرة صباحاً ولغاية السابعة مساءً في صالة الكنيسة