أبطالٌ جدد لإنقاذ المستضعفين في الأرضعثمان تزغارت
البطل الهوليودي التقليدي، صانع الخوارق الذي احتلّ واجهة الشاشات العالمية، خلال النصف الأول من الموسم الحالي، من «باتمان» إلى «آيرنمان»، مروراً بـ«إنديانا جونز» و«رامبو» و«جيمس بوند»، بدأ يتراجع ليفسح المجال أمام أبطال من نوع خاص شرعوا في غزو شاشات السينما تباعاً في الأسابيع الأخيرة، وهم «الخارجون عن القانون»، بمختلف أنواعهم وانتماءاتهم وتصنيفاتهم: لصوص مشاهير، رجال مافيا، ثوريون راديكاليون، إرهابيون، وأطفال حروب سرقت السياسات الإجرامية براءتهم...
والأرجح أنّ هذا الصنف من الأفلام سيكون، بلا منازع، السمة المميزة للموسم السينمائي الحالي، حيث تحتل ستّة أفلام مستوحاة من سير الخارجين على القانون صدارة الشاشات العالمية حالياً. واللافت أنّ هذه الأفلام ــــ رغم ما تثيره من جدل سياسي وأخلاقي (راجع الصفحة المواجهة) ــــ إلا أنّها تحظى بالكثير من الحفاوة والاستحسان، سواء على الصعيد النقدي أو على مستوى شباك التذاكرنقدياً، عادت ثلاث جوائز بارزة في مهرجان «كان» الأخير إلى هذا الصنف من الأفلام، حيث مُنحت «الجائزة الكبرى» إلى «غومورا» للإيطالي ماثيو غاروني الذي فضح ممارسات المافيا الدموية في نابولي. بينما عادت جائزة مهرجان «الكاميرا الذهبية» الألماني لفيلم Hunger «الجوع» للبريطاني ستيف ماكوين، وهو فيلم ساحر جماليّاً، لكنه بالغ القسوة والعنف، صوّر وقائع «إضراب الجوع والنظافة» الذي شنّه بوبي ساندز ومعتقلو «الجيش الجمهوري الإيرلندي»، في مطلع الثمانينيات، للمطالبة بالاعتراف بهم كـ«مساجين سياسيين»، وفصلهم عن مجرمي الحقّ العام. أمّا النجم بينيشيو ديل تورو، فقد حاز جائزة أفضل ممثل عن أدائه الآسر في الفيلم الملحمي «تشي» الذي اقتبسه «ابن هوليوود المشاكس»، ستيفن سودربرغ، عن سيرة الثائر الأممي أرنستو تشي غيفارا. والفيلم من جزءين وفق التسلل الزمني لسيرة غيفارا، حيث حمل الأول عنوان «الأرجنتيني»The Argentine، بينما حمل الثاني عنوان «الثورة» The Guerilla.
على الصعيد الجماهيري، استقطب فيلم The Baader Meinhof Complex للألماني أولي إيديل (Uli Edel) أكثر من مليون مشاهد خلال الأسبوع الأول من نزوله إلى الصالات الألمانية، رغم أنّ «الصورة الإنسانية» التي رسمها عن مؤسسي «فصائل الجيش الأحمر الألماني» (الثلاثي أندرياس بادر وغودرون إنسلن وأولريك ماينهوف) صدمت كثيرين في مهرجان «برلين» الأخير. إذ وصل الأمر بأرملة رجل الأعمال يورغن بونتو الذي اغتالته «مجموعة بادر ـــــ ماينهوف» إلى الاحتجاج رمزيّاً على الفيلم بإعادة جائزة الاستحقاق الوطني التي مُنحت لزوجها بعد مقتله، إلى رئيس الدولة.
أما في فرنسا، فقد خسر فيلم «جميس بوند» الأخير في شباك التذاكر المحلي أمام الفيلم المطوّل الذي اقتبسه توماس لانغمان (أصغر أبناء كلود بيري، المنتج سينمائي الفرنسي الذي رحل منذ أيّام)، عن سيرة اللّص جاك ميسرين الذي تخصّص في السطو على المصارف في السبعينيات، وقضّ مضاجع أجهزة الشرطة الفرنسية التي أطلقت عليه لقب L›ennemi public numéro1 «عدو الشعب رقم 1»، ولم تنجح في تصفيته إلا بعد ثماني سنوات شاقّة من المطاردة. وقد نزل هذا الفيلم إلى الصالات في جزءين مدّة كل واحد منهما ساعتان ونصف ساعة، حمل الأول عنوان «عدو الشعب رقم 1» والثاني «غريزة الموت»، وهو عنوان مذكرات ميسرين التي كتبها في السجن. من مفاجآت الموسم السينمائي الفرنسي أيضاً، فيلم «جوني الكلب المسعور» Johnny Mad Dog الذي اقتبسه جان ـــــ ستيفان سوفير عن رواية شهيرة تحمل العنوان ذاته، للأديب الكونغولي إيمانويل دونغالا، تروي مأساة «أطفال الحرب» الذين جُنّدوا عنوة خلال الحرب الأهلية في ليبيريا في صفوف جيش «الاتحاد الليبيري من أجل المصالحة والديموقراطية»، خلال عهد الديكتاتور السيئ الصيت تشارلز تايلور. ورغم أنّ هذا الفيلم أُنجز بموازنة متواضعة جدّاً لم تتجاوز مليوني يورو (إنتاج السينمائي ماتيو كاسوفيتز)، إلا أنه حقق إيرادات استثنائية فاقت مليوني مشاهد، وهي عتبة نادراً ما تتجاوزها الأفلام غير الكوميدية في فرنسا. ولا شكّ في أنّ الرواج غير المسبوق الذي تلقاه هذه الأفلام، على تباين سماتها الأسلوبية وشخصيّات أبطالها ومساراتهم، يجد تفسيره سياسيّاً ونفسيّاً في ما يشهده العالم خلال السنوات الأخيرة من هجمة ليبرالية شرسة وعواقبها الاقتصادية والاجتماعيّة والسياسيّة. تلك المناخات تولّد توقاً متزايداً إلى التمرد والانعتاق من زحف العولمة وضغوطها، لدى الفئات الشعبية التي تمثّل غالبية جمهور هذه الأفلام، وتعدّ الأكثر تضرراً من الأزمات المتتالية التي تفرزها هذه الهجمة الليبرالية. فكل مشاهد يجد، على طريقته، في سيرة هؤلاء الخارجين على القانون مثلاً يُحتذى به أو متنفّساً، ولو رمزياً، من وطأة السياسات الجائرة التي تهدّد، كل يوم، أعداداً متزايدة من المسحوقين والمستضعفين في أمنهم وكرامتهم ولقمة عيشهم.

أخلاقيّات المهنة على المحكّ؟الرواج العالمي الذي حقّقه «غومورا» أثار حفيظة مافيا الـ«كومورا»، فأهدرت دم الصحافي روبيرتو سافيانو، مؤلف كتاب «غومورا» الذي اقتبس عنه غاروني فيلمه.
هذه الأحداث ضاعفت من رواج الفيلم، وأفرزت موجة تضامن عالمية كبيرة مع المؤلف والمخرج (ما زال محبّو الفنانة الأفريقية الكبيرة ميريام ماكيبا يتذكّرون أنها تُوفيت بنوبة قلبية مفاجئة بعد لحظات على مغادرتها للحفلة التضامنية التي قدّمتها في نابولي، تضامناً مع مؤلف «غومورا»).
لكنّ الإعلام الإيطالي ضجّ أخيراً بما كشفه القضاء عن ثلاثة من الممثلين في الفيلم هم جيوفاني فينوسا، سلفاتوري فابريشينو وبرناردينو تيراتشيانو.
هؤلاء الثلاثة الذين أدّوا على الشاشة أدوار مجرمي المافيا هم بالفعل كذلك، إذ أُلقي القبض عليهم، بعد ثبوت تورطهم في نشاطات مافياوية.
وأثير جدل مماثل حول فيلم Johnny Mad Dog، بعدما كُشف أنّ 15 من الممثلين الذين شاركوا في الفيلم كانوا بالفعل «أطفال حرب» في السابق، ما وضع مخرج الفيلم جان ـــــ ستيفان سوفير ومنتجه ماتيو كاسوفيتز في حرج أخلاقي دفعهما إلى تحويل موقع تصوير الفيلم في ليبيريا إلى مقر لمؤسسة Johnny Mad Dog الخيرية التي أعلنا عن تأسيسها لتتولى إعادة تربية أطفال الحروب وتأهيلهم اجتماعيّاً.
وليست هذه المرة الأولى التي يُثار فيها الجدل بشأن ظواهر مماثلة. في عام 2002، بعد النجاح العالمي الذي عرفه فيلم «قندهار» للسينمائي الإيراني محسن مخملباف، إثر عرضه في مهرجان «كان» (كان أول فيلم إيراني يعرض في الصالات الأميركية منذ قيام الثورة الإسلامية)، واكتشف محققو الـ«أف.بي. آي» أنّ بطل الفيلم حسن عبد الرحمن ليس سوى ديفيد بيلفيلد الناشط الزنجي الأميركي الذي تحمّس للثورة الإيرانية، فاغتال سفير الشاه في واشنطن، قبل ذلك التاريخ بـ22 سنة. وقد توارى عن الأنظار من دون أن يعرف أحد الوُجهة التي سلكها... إلى أن عاود الظهور كممثل في فيلم محسن مخملباف!