لماذا لم ينتشر التحليل النفسي في البلدان العربية، ولماذا تقاوم مجتمعاتنا هذا العلم؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي يطرحه الاختصاصيّان مصطفى صفوان وعدنان حبّ الله في كتابهما «إشكاليات المجتمع العربي» (المركز الثقافي العربي)
حسين بن حمزة
حين يقع نظرنا على كتاب يحمل اسمين من طراز المصري مصطفى صفوان واللبناني عدنان حبّ الله، ويحمل عنوان «إشكاليات المجتمع العربي... قراءة من منظور التحليل النفسي» (المركز الثقافي العربي)، فلا بد من أن نعدَ أنفسنا بمادة دسمة ومختلفة. الأول هو تلميذ لاكان وأحد كبار المحلّلين النفسيّين في فرنسا، ومن مؤسسي المدرسة الفرويدية الباريسية. والثاني من مؤسّسي الجمعية اللبنانية للتحليل النفسي، و«المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية». ثم تأتي مقدمة أدونيس لتزيد من توقعات القارئ بشأن ما هو مُقبل على قراءته. لكن هذه التوقعات سرعان ما تتشوَّش، ليس بسبب المبالغة في التوقّعات ذاتها، بل لأنّ الكتاب نفسه قائم على فهرس مشوَّش. إذ إنّ النصف الأول منه هو نتاج حوارات أو ندوات تحدث فيها صفوان وحب الله. المشكلة أنّ ما قيل في تلك المناسبات منقول كما هو إلى الكتاب، فضلاً عن عدم تحديد تاريخ ومقاصد انعقادها. لعل هذا لا يخفِض من قيمة الكتاب أو الأفكار التي تردُ في هذه الحوارات. لكن ورودها حرفياً، وبالعامية أحياناً، يخفّف من هيبة الكتاب ورصانته أو لعلّه يوهم القارئ بذلك على الأقل. أمّا النصف الثاني من الكتاب، فيضمّ مقالات ودراسات عن موضوعات وقضايا عربية وإسلامية ذات علاقة بالتحليل النفسي وبغيره من المناهج والعلوم، وهي قضايا منفصلة وذات عناوين متباعدة. في الحصيلة، يصبح عنوان الكتاب غير مطابق تماماً لمحتواه. ثمة قضايا وإشكاليات عديدة يُؤتى على ذكرها ويُستفاض في النقاش حولها. العلاقة بين المجتمع العربي والتحليل النفسي ليست غائبة عن بنية الكتاب، إلا أنّ هذا لا يلغي إحساس القارئ بأنّ الجهد المطلوب منه يتجاوز منطق القراءة العادية والمسترخية إلى المشاركة المضنية في ترتيب الأفكار والمسائل الواردة فيه، بل ربط ما يختص بمجتمعه وثقافته كلما وردت فكرة أو أطروحة تتعلق بهما. قد يُقال إن هذا هو المتوقع من مطلق قارئ لمطلق كتاب. لولا أنّ الكتاب الذي نتحدث عنه لا ينضوي تماماً تحت سقف هذه المقولة البديهية، فضلاً عن أنّ موضوعه متشعِّب ومعقّد شأن أي موضوع يختص بالتحليل النفسي. حب الله نفسه ينبِّهنا في تقديمه إلى أنّ «الكتاب (بدأ) في شكل حواري يجعل القارئ يساهم في التفكير بدلاً من كتابات أخذت صيغة التكامل، وحصل انتقاء المواضيع حسب توارد الأفكار عن اهتمامات بالمسائل العالقة في المجتمع الحاضر، وقسم آخر كناية عن دراسات تطال مواضيع محددة عولجت من زاوية التحليل النفسي». القارئ ــــ رغم وجاهة هذه الإشارة ــــ يظلّ مشوّشاً حيال ما يقرأه، فالأفكار والآراء التي تُقال ارتجالاً لا تكون ــــ رغم جاذبيتها ــــ بقيمة ما هو مكتوب ومصوغ برويّة كافية.
لماذا لم ينتشر التحليل النفسي في البلدان العربية، ولماذا يقاوم المجتمع العربي هذا العلم؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي يتمحور حوله الكتاب. سعي المؤلِّفَيْن إلى الإجابة يأخذهما إلى طرح أسئلة وفتح نقاشات فرعية عديدة. إحدى ميزات الكتاب أنه يقرّبنا من تجربة محلل عربي مهاجر بمستوى مصطفى صفوان. الكتاب يُعيد جهوده الخلاقة إلى الثقافة العربية (لا ننسى هنا ترجماته لفرويد وهيغل، وكتابه الأخير «الكلام أو الموت» الصادر بالعربية عن «المنظمة العربية للترجمة»). كما أنّ تجاور ذلك مع حضور حبّ الله يزيد من حيوية الأفكار المطروحة. الحوارات الجارية بينهما أشبه بلعبة بينغ بونغ، يتبادلان فيها، على مرأى من القارئ، الكرات الثقيلة للفرضيات والتحليلات والاستنتاجات. ومن بينها أنّ المحلل النفسي العربي يصعب عليه العمل في مجتمعات عربية تفتقر إلى الديموقراطية والخطاب العلمي. والبرهان أنّ صفوان نفسه ترك مصر عام 1958 هرباً من الاعتقال. حبّ الله يسأل في إحدى المداخلات: «لماذا يخاف المجتمع العربي من التحليل النفسي. هل لأنه يعتبر اللاوعي شيئاً مخيفاً؟ فيجيبه صفوان بأن «كلمة العرب لا مقابل لها» وأنّ «الشعوب العربية خارجة عن التحليل النفسي خروجها عن الزمن»، مشيراً إلى «أنّ الدعوة السلفية التي نشأت في بعض بلدان الخليج العربي (...) أخطر من إسرائيل، فهي لا يهمها إلا الاحتفاظ بالسلطة والقوة، ونجحت في فرض الجهل». وهنا، يطرح صفوان فكرة أوسع هي أنّ «نتائج التغيرات العلمية لم تظهر آثارها بعد على مجتمعاتنا العربية كما هو حاصل في الغرب». الفرد في الغرب مريض بحداثته العلمية وديموقراطيته وأنماط الحياة المقررة له، أما الفرد في العالم العربي، فلا يزال يتوهم، بسبب الدين، أنّه في منأى عن أمراض الذات. صفوان يذكّرنا بمقولة لاكان عن معركة الدين مع التحليل النفسي، مؤكداً أنّ «الدين هو الذي سينتصر في النهاية». في موضع آخر، نجد أنّ الدين يعيق حب الله من ممارسة عمله العيادي بحرية واطمئنان، إذْ إن الكثير من هوامات الجنس المحرّمة في الإسلام تقف في طريق تحليل الشخص الذي يتعرّض لها. ويتحدث أيضاً عن امتناع الفرد عن كشف المكبوت خوفاً من الفضيحة، وحرصاً على مكتسبات الأنا. وهو ما يدفعه إلى التساؤل: «كيف يمكن تصوّر انتشار التحليل النفسي في ثقافات لم تدخل بعد في حقل الخطاب العلمي؟».
يبقى أخيراً أن نشير إلى السؤال الأصعب الذي طرحه أدونيس في المقدمة: «كيف يحلل علم النفس العربي فرداً لا ذاتية له؟».