ولد سمير خداج في بلدة كفرمتى عام 1939 في قضاء الشوف. تطور اهتمامه بفن الرسم من خلال تجارب مختلفة: تعرّفه إلى الفن التشكيلي الأوروبي الحديث خلال زياراته لعواصم أوروبية عديدة، وكذلك من خلال انخراطه في لبنان في تجارب تشكيلية جماعية، ومن خلال المساهمة تشكيلياً وسينوغرافياً في بعض تجارب المسرح اللبناني المعاصر. وبينما اجتاحت فصول الحرب كافة نواحي الحياة في لبنان، شرع سمير بالرسم، وحيداً أو بمعية أصدقاء.
لم يرسم الحرب بل رسم الحياة خلال الحرب، والناس الموسومين بها. والنتيجة ستون لوحة بينها عشر لوحات جماعية كبيرة عرضت في فندق «الكارلتون» عام 1989. سيمفونية من الألوان ملأت المكان حينها معبرة عن طاقة الأحياء التي تفور وسط حرب مدمرة.
عام 1990، ينتقل سمير خداج إلى باريس حيث يوفر له بعض الأصدقاء مساحة للرسم في طابق تحت الأرض في «مستشفى كونياك جي». سرعان ما يصبح هذا المكان فضاء للعيش والإبداع والتعبير، وفي وقت يخضع المرضى في الطوابق العليا المصابون بأمراض خطيرة لعلاجات مخففة للألم ولرعاية طبية نفسية، يفور الفضاء المسكون بسمير وهواجسه وفنه بشتى أنواع الأشكال والمواد والأساليب، وحيث يختلط المرض بالموت بالحرب بالحياة تختلط المقاربات الفنية التي تنبجس من بين يدي سمير بحيث لا يترك قيد أنملة في هذا المكان إلا وطبعتها ببصمة من بصماته.
عام 1992، يعرض على سمير خداج أن يقيم معرضاً للوحاته في فضاء في مدينة مونتروي. هنا تجلت دينامية الفنان الذي يرفض أن يكتفي بعرض لوحاته في مكان لا تنتمي إليه، بل يقرر أن يحتل المكان، أن يغويه، وأن يدخله عالم صوره، فينبري يؤلف في المكان عينه أي في فضاء مونتروي أعمالاً تحاكي الفضاء ومقاييسه وخصائصه. كما يضمنه أعمالاً من خارجه يدخلها فيه كأنّها تحج إليه. الفنان لا يعرض لوحاته، بل يقوم بإخراج مشهد تشكيلي.
منذ ذلك التاريخ، سوف تشكل هذه الطريقة في العمل الاستراتيجية الفنية الذي يتبعها خداج في غالبية الأحداث الفنية الكبرى التي يصممها ويحققها: في «المركز الثقافي الفرنسي» في بيروت عام
1993، في «قصر الأونيسكو» عام 1999، في قبة الـ «سيتي سنتر» في ساحة الشهداء وسط بيروت عام 2002... كل فضاء من تلك الفضاءات يخضع لتحول سحري بفعل تدخل هذا الفنان الفوضوي الذي يحترم الأمكنة كما يحترم البشر، فلا يكرر في مكان ما سبق أن شكله في مكان آخر، بل يصغي إليه، يتحدث إليه، ويحوّل حواره معه إلى تظاهرة بصرية زائلة غير قابلة للتكرار أو الاستنساخ.
إلى أن جاء اليوم الذي اكتشف فيه خداج فضاء جديداً للإبداع: فن الفيديو الذي يضاعف إلى ما لانهاية لعبة الأبعاد وتحولاتها. الصورة التي تلتقطها الكاميرا تكتسب فضيلة كانت تجهلها ألا وهي الحركة. هذا الاكتشاف يبهر خداج ويفرد أمامه فضاء جديداً يستضيف نفسه فيه، يختبره، يوظف له كل طاقاته، يراهن فيه على مجمل مهاراته المهنية: تأليف وتوليف الصور في فضاء يبتلعها ليعيد إنتاجها. كما في علاقة عاطفية، تبدأ حكاية الفنان مع الفيديو بالمداعبة: الشاشات تندغم بالرسوم في التجهيزات التجريبية الموزعة في زوايا المدينة (مسرح بيروت، زيكو هاوس، كليمنصو...)، وفي المرحلة الراهنة، يلتهم الفيديو الفضاء الذي لم يكن فيه سابقاً إلا مجرد شريك. لكن العملية لا تتعلق فقط بالشكل، بل تركز وتضخّم (وهذا يبدو متناقضاً لكنه صحيح بشكل رهيب) كل ما حصدته مخيلة الفنان من فعل وجوده وتجاربه، من صور ومن أفكار، من إدراك للعالم ومن رفض لكل ما صاره هذا العالم. التشكيل صوراً أصبح تشكيلاً في الفضاء. وهذا الأخير تطلب فن الإخراج الذي تحول إلى «التشكيل في الهاوية» الذي يسطو على شخص الفنان نفسه، فيؤدي إلى «إخراج موته». صورة ذاتية، إهمال ذاتي، استنكار ذاتي، الصورة تفرّغ من مادتها، الإنسان يتعرّى جسداً وروحاً، الفن ينكر ذاته، ويختفي سمير خداج في كواليس مسرح فارغ.
* مسرحي لبناني ــ كانون الثاني 2015