«هجرة السنونو» (دار ورد) أشبه بسيرة تحكي طفولة الكاتب، في ظل أب صارم وحياة ضابط الاحتياط في دمشق مطلع شبابه، ثم الهجرة إلى بيروت
خليل صويلح
رواية أم سيرة ذاتية، تلك التي كتبها حيدر حيدر أخيراً تحت عنوان «هجرة السنونو»؟ صحيح أنّ البطل يحمل اسم هزيم إسماعيل، لكن كل مواصفات الشخصية تتماهى إلى حد كبير مع سيرة صاحب «وليمة لأعشاب البحر» لا بل إنّه لا يتوانى عن ذكر أسماء حقيقية في متن الرواية، وخصوصاً في مرحلتها البيروتية التي خبرها في حقبة من حياته. هكذا، سيغادر طرطوس أوائل السبعينيات إلى بيروت للعمل في دار نشر معروفة. هناك، سيلتقي المعارض السوري رئيف شاهين ليكوّنا ثنائياً ثقافياً في مدينة تعيش حرباً أهلية على الأبواب. لكن هزيم إسماعيل لا يجد مفراً من البقاء في بيروت بكل صخبها وأطيافها وخماراتها، فهي في أسوأ الأحوال أفضل من «بلاد تعيش البغضاء والاستبداد والفساد».
فشل زواجه الأول منعَه من الانسياق وراء نزوات جديدة، وكل ما عليه الآن هو أن يرمم روحه مجدداً، ويبدأ حياةً مختلفة. هكذا، ستنمو الذكريات عبر ثلاثة أزمنة متوازية: الطفولة الأولى في ظل أب صارم ومستبد، وحياة ضابط الاحتياط في دمشق، مطلع شبابه، والهجرة إلى بيروت، بعد اقتناعه بأنّه «آن الأوان كي تنجو بنفسك من هذا الجحيم».
رئيف شاهين سوف يكون بوصلته الثقافية إلى بيروت المقاهي والخمّارات والوسط الثقافي والنساء. اغتيال الدكتور عبد الوهاب الكيالي مدير «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، سيفتح باب الجحيم على مصراعيه في مدينة تغص بأجهزة استخبارات عربية، إضافةً إلى الموساد الإسرائيلي، ومنظمات فلسطينية بالجملة. في ذلك المناخ المحموم والمشحون بالرعب والاحتمالات السيئة، سيتساءل هزيم إسماعيل «إلى أين يسير البلد؟» وسيجيبه صديقه رئيف شاهين من دون تردد «إلى الدمار». هاهنا سيفكر هزيم «المحاصر كحيوان في قفص»، أين سيقف ومع من؟ ولم يكن أمامه خيار سوى «الملاذ الفلسطيني».
ولكن من هو شوقي نصر الله الذي دخل على خط الأحداث فجأة؟ مثقف لبناني «فوضوي وزورباوي مهووس بالنساء والخمر» أمنيته «أن أصف الزعماء العرب في نسق وأرشهم بالرصاص، ثم أجلس على جثثهم وأسكر حتى أموت» لكنّ فجيعته باغتيال صديقه مهدي عامل ستدمّر حياته العبثية إلى الأبد.
في ساعات الوحدة، سيتذكّر هزيم أولاده البعيدين وأمّه الوحيدة، كما سيستعيد ذكرياته مع امرأة تدعى مها القادري كانت عشيقته في دمشق، لم يتمكّن من حمايتها من سطوة رجال الأمن بعدما دمّروا حياة زوجها ونفوه خارج البلاد.
فجأة، تصل بيروت مثقفة عراقية اسمها سامية عبد الأمير، بقصد تأسيس مجلة ثقافية وتختار هزيم إسماعيل رئيساً لتحريرها، لكنه سرعان ما يجد نفسه مراقباً من الأمن السوري، ويُتَّهم بأنّه على علاقة ببعث العراق. هذه التهمة الباطلة ستكلفه سنوات من عمره خارج البلاد، إلى أن يتدخّل سفير سوري لدى السلطات الرسمية بترتيب وضعه، وكان قد هاجر إلى قبرص، بعد ترحيل المنظمات الفلسطينية خارج لبنان إثر الغزو الإسرائيلي لبيروت سنة 1982. يلجأ حيدر حيدر إلى توثيق تلك المرحلة من حياة بيروت ما بعد الحرب الأهلية، والصراع بين الطوائف والأحزاب والمنظمات، وحادثة «البوسطة» ومعركة عين الرمانة التي سوف تشعل فتيل الحرب الأهلية إلى تأسيس «دار ابن رشد» التي عمل مستشاراً لها.
في قبرص أو «جزيرة النعاس الأزرق» كما سيذكرها في يوميّاته، سيشعر بالتصحّر والعزلة والوهن «الروح متعبة والجسد حزين. الزمن يعبر. يكسرك كما تكسر العاصفة أغصان الشجر». هكذا سيعود السنونو المهاجر أخيراً من منفاه، وسيكتشف لدى وصوله البلاد، دمشق أخرى، تحوّلت «مكة تجارية، وإسبارطة عسكرية» فما كان منه إلا العودة إلى قريته، ليتساءل أخيراً «هل هذا الذي جرى حقيقة أم ضربة كابوس؟».
«هجرة السنونو» (دار ورد)، في المآل الأخير، مرثية شخصية أكثر منها رواية تخترع أبطالها وأحداثها، ذلك أنّ حيدر حيدر كان حريصاً على توثيق يومياته أكثر من اهتمامه بالتخييل السردي، عدا تلك الشحنة الشعرية في الوصف والتداعيات التي وسمت أعماله كلها، وإن بدت باذخة في مقاطع من الرواية، كتلك الرسالة التي يكتبها إلى أمه «عمتِ مساء أيتها الأم الحزينة، فالليلة شديدة الحلكة في هذا الغسق المدلهم. إنه ينهمر فوقي كما انهمرت الغشاوة على عينيك فعميتِ». هزيم أو «صوت الرعد» انتهى إلى الخذلان والصمت، فاندحر إلى منفى اختياري هذه المرة.