محمد خيركما هي الحال سياسياً وعسكرياً، ينتظر الإعلام المتابع للعداون على غزة، تغيّراً كبيراً، حدثاً انقلابياً... مفاجآت لم تأت بعد. إلا أنّ الوضع الحالي لا يبشرّ بأي تغيير. هكذا، تستمر كل «جبهة» إعلامية في بثّ المزيد من الصور والتأكيد على الخطاب نفسه. هنا، أطفال يصرخون ودماء تتناثر، واتهامات وغضب، أمّا هناك ففرقعات ليلية، ليست قنابل مضيئة تسهّل عمل الجنود، بل فوسفور يترك أثره القاتل حتى بعد أن تضع المعركة أوزارها. المفارقة الوحيدة أنّ هذا التداخل بين الـ«هنا» والـ«هناك» لم يكن واضحاً كما أصبح الآن، فلم يعد التعتيم حكراً على الأثير الغربي... وصراع المصطلحات الذي احتدم سابقاً يبدو أنّه استقر وبدأ يؤسس تاريخاً. أصبح مملاً الحديث عن الفارق بين «القتلى» و«الشهداء»، وبين الحرب في غزة كما تقول «الحرة»، أو الحرب على غزة كما تقول «الجزيرة». حروف الجر أصبحت تحصيلاً حاصلاً. وبين هذا وذاك، تحوّلت الشاشات إلى لوحات أرقام لا علاقة لها بأسعار الأسهم، بل بعدّاد الضحايا.
غير أن أرقام الجهة الأخرى تسبّب إرباكاً شديداً، بينما تتبنّى الشاشات الأرقام التي تعلنها فصائل المقاومة، عن الإصابات في صفوف الإسرائيليين، يصعب تأكيد هذه المعلومات إلا بعد الاعتراف الإسرائيلي. هكذا أصبح هناك رقمان يتصاعدان ببطء على «الحرة»، وبسرعة على «الجزيرة». كيف يمكن أن يؤسس المشاهد موقفه من «الصمود» الفلسطيني، إذا لم يكن في إمكانه أن يعرف خسائر العدو؟ إذا صحّت أرقام «القسّام» فذلك يستلزم خطاباً، وإذا صحّت الأرقام الإسرائيلية، فهذا يتطلب مراجعة، وربما تراجعاً؟
هكذا لم يعد تبنّي أرقام ـــــ وروايات ـــــ هذه الجهة أو تلك نابعاً من الحقائق على الأرض، بل من الانتماء والموقف السياسي. هل يمكن بعد ذلك الحديث عن «حقيقة»؟ وإذا صحّ أنّ إسرائيل ــــ الديمقراطية ـــــ لا يمكنها إخفاء قتلاها، فلماذا إذاً فرضت هذا القدر غير المسبوق من التعتيم الإعلامي؟ المفارقة هنا أنّ «الجزيرة» تواجه اتهامات التعبئة الإعلامية، رغم أنّها تستخدم الصورة وتستضيف الطرف الإسرائيلي ليعرض وجهة نظره، أما الحقيقة ـــــ والمهنية ـــــ فعند إسرائيل التي أخفت الصورة تماماً، وحصرت الحقيقة في البيانات العسكرية.
مهما كان ما سيكشف عنه الغبار يوم ينقشع، فالنتيجة واحدة: تعتيم من نوع جديد، التعتيم بكثافة الصور والأخبار، لا بندرتها، وبينما يعاد بث التقارير نفسها مراراً على مدار اليوم، تغيب مساحات شاسعة مما يجري، أبرزها المفاوضات التي تجري في الغرف المغلقة، ولا يرى منها المشاهد سوى لقطات لرجال في حلل رسمية على مقاعد فاخرة، لقطات كان يمكن لها، بسهولة، أن تكون أرشيفية. الشاشات تجذبنا إلى الشوارع المتفجّرة بالدم، بعيداً عن صالونات التفاوض، حيث الحرب الحقيقية.