كيف نستنبط الاستعارات الشعريّة من السياق السياسي؟ هذا هو رهان الفنان المكسيكي الذي حلّ ضيفاً على بيروت، بدعوة من جمعيّة «98 أسبوع»، ليدير ورشة «وأنا أمشي...»
سناء الخوري
السير ليس مجرّد تجربة يوميّة، بل منفذٌ آخر للولوج إلى العالم المديني، ونقطة عبور نحو حالات إبداعيّة. بهذه الخلفيّة، انطلقت ورشة عمل «وأنا أمشي...»، حيث حلّت المساحة المدينيّة مجدداً على طاولة مشروع «بيروت كلّ يوم آخر» بجزئه الثّاني، بعد الورشة الأولى «الركام في المدينة». هكذا، استضافت جمعيّة «98 أسبوع» أخيراً التشكيلي المكسيكي، البلجيكي الأصل، فرانسيس أليس (49 عاماً)، يرافقه الناقد غواتيموك ميدينا لإدارة الورشة بمشاركة فنّانين لبنانيين وآخرين مقيمين في لبنان.
خلال تجربته الطويلة، اتّخذ أليس من المشي وسيلةً لسرد الأمكنة بطريقة مختلفة. إذ إنّه يبحث عن مكامن الشعر في المساحة والأجواء كي يحوّلها إلى استعارات سياسيّة و«لوحات» تفتح رؤية جديدة على إمكان التغيير.
على مدى ستّة أيام، حاولت ورشة «وأنا أمشي...» استكشاف بيروت شعرياً: بحثَ أليس عن مصادر إلهام في الجوّ اللبناني المتمنّع عن الكشف، بعدما اصطحبه الفنانون المشاركون في رحلة حول المدينة. مع إيلي أبو سمرة، ريا بدران، إيلينا بيلانتوني، مارتا بوغدانسكا، لانا ضاهر، ريشار قهوجي، كريستوف قطريب، نسرين خضر، فرانسيسكا بييروس، سيسكا، ألفرد طرزي، كارين وهبة، ولورا زيلدنروست، جال أليس في طول بيروت وعرضها سيراً على الأقدام بحسب تيمة يحدّدها الفنّان ـــ الدليل. منهم مَن أخذه في مشواره الصامت اليومي من مكان عمله إلى بيته، ومنهم من اصطحبه إلى منطقة يحبّها وأخرى يكرهها، ومنهم من أعطاه «درساً في التاريخ». هكذا، تعرّف الفنان إلى العاصمة اللبنانية وضواحيها بأحيائها المتنوعة طائفياً وطبقيّاً.
بعد هذه المشاوير، حدَّدت إشكاليّة علاقة الإبداع بالسياق الاجتماعي أو الجغرافي، إطار النقاش في المحاضرة الختاميّة التي عرض خلالها أليس بعض أعماله في «بيت الصنائع» مقرّ «98 أسبوع». وشرح هذا الفنان علاقة أعماله بالمكان. هو لا يكتفي برسم لوحاته، بل يسعى إلى تجسيدها، في نوعٍٍ من التجهيز أو الأداء الملحمي. في عام 2002 مثلاً، استقدم 500 متطوّع يحملون الأرفاش بهدف حفر جبل في منطقة ليما (بيرو) لتنفيذ لوحة سمّاها «حين ينقل الإيمان الجبال». لم يكن الهدف نقل الجبل من مكانه فعليّاً، لكنّ عبثية الخطوة أنتجت استعارة فنيّة ذات نبرة ملحميّة.
يشرح الناقد غواتيموك ميدينا «اللوحة» بأنّها «موقف ضدّ الاقتصاد العالمي النفعي الذي سنّه الغرب كمنطق عام». ويضيف بأنّ هذا الجهد العبثي هو «وسيلة للسخرية من الحوافز الاقتصادية التي تمجّد الجهد، لكن من دون أي مقابل حقيقي». مجانيّة المشروع لا تنفي بُعده النقدي، فتلك الفكاهة الملطّفة، حسب ميدينا، تفيد «بأنّ التغيير يتمّ بجهد ضخم رغم نتائجه المتواضعة».
على هذا المستوى، يعتبر أليس أنّ رهان الفن المعاصر هو طرح قضيّة خلف اللوحة من دون أحكام أخلاقيّة ليكون العمل سؤالاً معلّقاً. في لوحة «خطّ أخضر» (2005)، سار أليس حول القدس، حاملاً علبة طلاء أخضر رسم بها على الأرض خطاً أخضر حقيقياً في إشارة ساخرة إلى الخطّ الذي قلب حياة المقدسيين منذ 1948. استعارة شعريّة، تطال البعد السياسي في عمقه لأنّها تهزّئه. هذا التوتّر الفكاهي يشدّ الجمهور، مع الاحتفاظ بمسافة من الأحداث المأسوية. هنا، يؤكّد أليس أنّ «الفنان لا يخترع شيئاً، بل يعيد ترتيب هموم الناس». ويفسّر ميدينا مكمن الإبداع في هذه الأعمال وهو «القدرة على خلق لوحات ظاهرها خالٍ من المعنى، لكنّها تنتقد بقوة خلفيّة المعنى السائد في المجتمع، وتجعلنا نلتفت إلى أننا لسنا سعداء في الواقع». هل ألهم واقع بيروت أليس على استعارةٍ ما؟ يجيبك الفنان بأنّه «يشعر ببعض الضياع تجاه الذاكرة الجماعيّة» بسبب تراكُم «القراءات العاطفيّة للأماكن المختلفة التي زارها». شعر أليس بأنّه «دخيل» في المدينة يحتاج إلى فهم المكان كي يتمكّن من تحويله إلى مادّة لصناعة لوحة. يسمع باهتمام عندما تطمئنه بأنّ اللبنانيين أنفسهم يشعرون بأنّهم دخلاء في بيروت وبأنّها عصيّة على الفهم بالنسبة إليهم أيضاً!
www.98weeks.org