محمد خير البرج الفقير المكوّن من الطوب الأحمر، بالتأكيد لا ينتمي إلى الساحة الفخمة لدار الأوبرا المصرية. لكنّ «عدم الانتماء» هذا هو ما منحه معناه، وربما هو أيضاً الذي جعل الجائزة الكبرى لـ«بينالي القاهرة الدولي» من نصيب لارا بلدي. «برج الأمل» (الصورة) عنوان عمل تجهيزي إنشائي بتوقيع الفنانة اللبنانيّة المقيمة في مصر التي انطلقت منها لتحقق مكانة مرموقة على خريطة الفنّ المعاصر. وقد استطاع العمل، بغرابته وغربته عن المكان، أن يضم ذلك المكان نفسه إليه، لتصبح حديقة الأوبرا وقصر الفنون جزءاً لا يتجزأ من التصميم وإطاراً مكمّلاً له. هكذا، يخلُق التناقض بين مهابة الأوبرا وعشوائية «البرج» توتّراً فنياً يلخّص معمار القاهرة المعاصرة.
الطوب الأحمر ليس مجرد ملمح يميّز البنايات العشوائية، هو أيضاً نتاج تجريف الأراضي الزراعية. في تصميم لارا بلدي الفائز أخيراً بجائزة «النيل الكبرى» لـ«بينالي القاهرة» الحادي عشر، يرتفع بناء الطوب الأحمر تسعة أمتار في سماء الأوبرا. هو برج لأنّ تكوينه دائري كأنّه مئذنة، داخله أجوف ومنزوع السقف، أرضيته غير مستوية، ترتفع وتنخفض في مواضع متعددة تمنع الداخلين من الوقوف مرتاحين. وفي الداخل مصاطب حجرية متربة، أُنشئت ليجلس عليها رواد البرج يستمعون لموسيقى أعدها الإنكليزي ناثانيال روبين مان، والإسباني أنخل لوبيز ديلاليافي. هي أنغام أتت من عالم آخر، مستقاة من السمفونية الثالثة لهنري غوريكي، الأمر الذي خلق تناقضاً آخر.
ماذا عن السكان؟ يظهر الفلاح في ملمحين: طبيعي وتجريدي. في الأول، هو منقوش بخطوط صغيرة على أحجار متفرقة، بروفايل جانبي صغير، ظهره منحنٍ ويدفع حماره إلى الأمام، ويؤلف جسدهما معاً كلمة «أمل» بالعربية، ثم بالإنكليزية على أحجار أخرى hope. أما الصورة الأخرى ـــ المجرّدة ـــ للفلاح، فيصبح فيها عبارةً عن أحجار جيرية بيضاء متلامسة وسط طوفان الطوب الأحمر، تؤلّف معاً قلوباً وأسهم، هي الأصول الريفية المتراجعة أمام زحف البناء العشوائي.
يمكن المتأمل أن يلمح كلمات صغيرة أخرى منحوتة على الطوبات الحمراء، منها «التفاؤل 2000»، «التعاون»، «الهدى 97». والمفاجأة هنا أنّ الكلمات لم تكن جزءاً من التصميم، بل هي علامات الشركات الصغيرة التي صنعت الأحجار واكتشفتها لارا بلدي بالمصادفة، وتبتسم مؤكدة: «كانت مصادفة سعيدة».
في أعلى البناء، شبه حجرة صغيرة تصل إليها درجات سلّم معلقة في الفراغ. تبدو الحجرة كقمة مئذنة أو «غيّة حمام». درجات سلالم أخرى متفرقة تخرج من قلب البناء من الداخل، ولا توصل إلى أي مكان... وشبابيك مستطيلة ومثلثة، تبدو كنوافذ حيناً وكفتحات تهوية حيناً آخر، هي منافذ متفاوتة الأحجام. بينما مدخل البناء متوارٍ خلف حائط من الطوب نفسه، يخفي البوابة متراوحاً بين احتمالين: ساتر لمخبأ، أم مجرد صفوف طوب قيد الاستعمال؟
ورغم غرائبية تتبدى من عدم اتساق المكونات، فإنها تبدو جميعاً مألوفة، والسرّ بسيط: التقطت المصوّرة عدداً كبيراً من الصور لبنايات القاهرة الفقيرة والعشوائية، واستخدمت مكونات الصور الحقيقية في نسج تصميمها، ما منح غرائبيتها صدقية الواقع.
ويكتمل التكوين بالكلمات التي كتبها عمر الشلقاني بالعامية المصرية، مستخدماً لغة تجمع بين خطاب المزاد الشعبي ومنادي الموالد: «سمع هوس، تعال اتفضّل، شوف واتفرج وكمان اسمع»... يدعو القادمين للسكن في بناية «طالعة بلا مية، وبلا صرف صحي، وبلا قافية»! إنّها بناية «طالعة في آخر مربع أخضر ومستلفة الكهرباء من الجيران، على جزيرة كانت الأرض عليها في يوم بتتحسب مش بالمتر، لا بالفدان».
الكلمات والبناء والموسيقى، عناصر تضافرت وتنافرت لتصنع معاً المعنى من «برج الأمل»، والمعنى هنا دعوة إلى الأمل بلا ضمانات، مبعثها أنّ القبح لا يمكن ـــ رغم سطوته ـــ أن يمحو الجمال، فالأخير موجود وراء كل حجر، حتى لو كان حجراً أحمر!