«أقلّ دخاناً، وأكثر» في غاليري «أجيال»بيار أبي صعب
ليس في أعمال أسامة بعلبكي ما يغري بالمعنى السائد اليوم للإغراء، وهي لا تستجدي تواطؤاً، ولا تقدم حدّوتة، قابلة لقراءة فوريّة، مطمئنة. وإذا شعر بأن لوحة ما تقدّم هذا النوع من التسهيلات، أي إن موضوعها يظهر على السطح، يعتذر أسامة عما يعتبره انزلاقاً إلى السهولة. يبدو قاسياً مع نفسه. مثلاً لوحة «حضارة» تشتمل على أربعة عناصر: تلفون جوّال من الجيل الأول، وحجر مسنّن من العصر الحجري، وعضو ذكوري اصطناعي من ابتكارات التكنولوجيا. «أشياء ميتة» ــــ كما نقول طبيعة ميتة ــــ مرتبة بعناية عياديّة جنباً إلى جنب، وإلى اليسار مسطرة قياس تشير إلى صرامة متحفيّة في التصنيف «العلمي». هكذا يطرح الفنان اللبناني الشاب (1978) فكرة التراكم، وعبور الوقت. إنّها أسئلته الفكريّة والسياسيّة أيضاً: خطر «التصنيف» الذي يفرّغ الأشياء من روحها. بهذا الامّحاء والهدوء، يخاطب بعلبكي معاصريه، وسط واقع يضجّ بالمعارك والشعارات.
في معرضه الحالي «أقلّ دخاناً، وأكثر» (أجيال)، يرصد بعلبكي الواقع من زاوية محايدة، وباردة. يظهر ذلك في اختيار موضوعه، وفي طريقة معالجته، وانتقاء مواده. في المشهد القاتم، الأخرس، الذي ابتلع الثرثرة وامتصّ الضجيج... كما يكبت هو مشاعره وذاتيّته ويقتصد في ألوانه، ولو أن أناه تخونه في النهاية وترشح من ضربة الفرشاة، من نزوات «أركيولوجيّة» مختلفة، من مراجع جماليّة وفكريّة شتّى، من ذلك الانشغال (الانبهار؟) الدائم بالصمت والفراغ وعبور الوقت والغياب والالتباس والموت. يرصد المجرّد الكامن خلف (داخل) الأشياء التي يرسمها. يذهب إلى اللوحة بتعبيره «بإرادة معاكسة للوصف السردي»، فهو يرسم الواقع «لا لتخليصه من مغالطاته، بل... لتأكيدها». كَنَبات أو هياكل سيارات... حضور بشريّ مفاجئ أحياناً... أدوات بدائيّة من عصور غابرة، وحجارة أركيولوجيّة يضعها في مواجهة أدوات الأزمنة الحديثة: رأس الحربة الحجري البدائي تخاله سهماً كالذي يطالعك يومياً على شاشة الكمبيوتر («في البدء كانت الضحيّة»).
إنّه عالم من التناقضات، والتراكمات، والرؤى الغريبة، والعلاقات غير المتوقعة... ذلك التشوّش الدائم يكاد يكون حجر الأساس في رؤية أسامة بعلبكي للعالم وللذات، للتاريخ العام والحميم. هذا الفنّان (والشاعر) يرسم وعينه على القصيدة، كما يذكّر في كتيّب المعرض: لوحته «أقرب إلى قصيدة الـ«هايكو»، جملة من التداعيات العادية مكللة بلمعة خارقة». يرسم كمن يكتب قصيدة نثر، بقدرتها على خلق منطق آخر، مفاجئ، انطلاقاً من عناصر متضاربة لا تجتمع في الواقع المألوف... ويتحدّث عن «مفارقات مدبّرة لا تتوخّى قصداً محدداً»، ويذكّر بأن «المعنى في الالتباس». هكذا يكثر من رسم مدافن السيارات. هياكل صدئة، متكلّسة، محطّمة في أرض مقفرة وسط مشهد ريفي معتم، عالجه الرسام وفي ذهنه لوحات مدرسة «باربيزون» التي سبقت الانطباعيّة في فرنسا ومهّدت لها. الأشكال المعدنيّة المؤسلبة، في الأرض المهجورة الكئيبة، «حيوانات ميتة» تختزن ذاكرة عنف وحروب من دون أن تقول ذلك... نصل إلى البوسطة الشهيرة التي ترمز لانطلاق الحرب الأهليّة. اهتدى اليها في النبطيّة ورسمها. مرّة أمام عمارة متصدعة، ومرّة كمنحوتة رصاصيّة مؤسلبة عالجها كما الطبيعة الصامتة، على خلفيّة جدار بائس من الحجر الإسمنتي كما في ورشة لم تكتمل («من دون عنوان»). السيارات الأخرى تمثّل موديلات محدّدة، ممهورة بالزمن: «كل مرحلة زمنيّة لها رائحة، يقول، ما زلت أذكر رائحة النتن والعفن والتخثّر الطالعة من الثمانينيات». ذاكرة الحرب الأهليّة ورثها عن أهله المسيّسين، قبل أن يعيد صياغتها كجزء من سيرته الشخصيّة.
كنبة الجلد السوداء المضاءة بعناية واقعيّة، تكاد تبدو مشهداً بريئاً محايداً. نقترب ونقرأ عنوانها «طبيعة صامتة بالـ سي فور». إذاً المظروف الأزرق المنسي على الطرف اليمين، يتضمّن تلك المادة المتفجّرة الأكثر خطورة في عالم المتفجرات (C4). الكنبة هي القالب، المرجع الجمالي المهيمن في تاريخ الفنّ، والمظروف الأزرق هو الشفرة، اللغز، الرسالة: هل قلت إرهابيّاً؟ الكنبة الأخرى «فراغ»، تنويع على انشغاله بخلو الأمكنة والفضاءات من أصحابها. يحب أسامة الكنبات، تربطه بها علاقة خاصة. يقول إنّها كنبات موجودة حقاً في حياته. لقد تعلّم أن يغرف مادته من عالمه المباشر. مذ توصّل إلى هذه المعادلة بات يشعر بأن عمله أكثر قوة وتماسكاً.من عالمه الحميم استقى ذلك البورتريه لشاب يحمل كتاباً ويقرّبه من وجهه (عطر الأم). إنه شريك التجربة والقراءات يقول... قبل أن نمضي إلى «صديق» آخر لأسامة: الشاعر الفرنسي رينيه شار، رسمه جالساً إلى جدار من الحجر كالذي نجده في القرى، وعلى جبينه فراشة، وفوقه كلبه «تيغرون» («في ربيع مغلوط»). بين أسامة وصديق الرسامين الذي اكتشفه عبر نص بعنوان «في جوار فان غوغ» علاقة خاصة بادية في اللوحة، أجمل أعمال المعرض. يبحث المتفرّج بين لوحات أسامة، عن نفسه، عن ذاكرته، عن الزمن الهارب عند الحدود الفاصلة بين الواقع و«مغالطاته» بالأبيض والأسود.
حتى 31 الحالي ـــــ غاليري «أجيال»، بيروت ـــــ 01/345213

أركيولوجيا الحرب والزمن الضائعيتمهّل أمام قفص معدني محطم لإحدى السيارات، ويسرّ إلينا: «أمّي قضت في حادث سيّارة»، قبل أن يستدرك أن هذه التفاصيل لا ينبغي أن تتحوّل إلى مفاتيح قراءة، فتنتج أسطورة لا علاقة لها بالتجربة. الأمر نفسه يتكرر في حكايته مع الحرب. هي هنا من دون أن تعلن عن نفسها، وتثقل على الرؤيا... وكذلك الولع بالحجارة القديمة وحجر السيلكس والأدوات الأثرية الذي أخذه عن والده الفنان عبد الحميد بعلبكي، صارت هواية بل هوساً حمله مع أخيه منذر إلى اكتشافات مذهلة في قلب أرض الجنوب اللبناني على مرمى حجر من الدوريات الإسرائيليّة... وهو حين يرسم تلك الأدوات الأثريّة، يعالجها ككائنات حيّة، كأجزاء من حياة بعيدة.
هذا الشغل الأركيولوجي هو سمة تجربة بعلبكي التي تربطها أواصر قربى بإنتاجات جيل ما بعد الحرب في لبنان، الباحث عبر الماضي القريب عن أسئلة وذكريات وجراح منسيّة، ضمن ما يمكن أن نسمّيه ــــ في الأدب والمسرح والسينما والفنون البصريّة والمعاصرة ــــ بـ«أركيولوجيا الحرب».
تتراءى لنا أحياناً أشكال هلاميّة تذوب في مادتها الأولى، ثم تتشكّل من جديد. يحبّ أسامة بعلبكي الرسم بالزيت، لكنّه لجأ إلى الأكريليك لأسباب صحيّة... من هنا تلك المعالجة الخاصة للوحة التي يخالها المرء لوهلة عملاً زيتياً، بسبب الأخاديد والندوب وكثافة المادة المتشققة التي تجاهر بآثار الريشة وضرباتها.
أما غياب اللون عن المعرض أو ندرته عموماً... فلا علاقة لها بأية سوداويّة أو جنائزيّة أو حداد. لعلّها من سمات التقشّف والبحث عن الجوهر بشكل ما.
يشرح لنا الفنان كيف أن الألوان مرادف للهو والترف، وأن استغناءه عنها استبعاد للانفعالات، كي تخلو مساحة القماش للتأمل، وتتسع للمشاغل الفلسفيّة التي يعمل عليها.
هو الباحث عمّا يبقى من أثر بعد مرور الوقت، مسائلاً تلك المسافة الغامضة بين رجل الكهوف والإنسان المعاصر، بين ما قبل التاريخ والأزمنة الحديثة...

من نصوص الكتيب:
الصور الإيضاحيّة
صنعت مخيّلتي
ذائقة الفتى المخبول
من متن الورق أهوج الرائحة
وتقوى الزوايا
ولمعان السهول في المسلك البرّي
والهرج سعة المرج ولذة السكاكر
وشجن التلفاز ذي المحطّة الواحدة
وبخار الأم جوخ البتوليّة
ورائحة النظافة عند الظهيرة
وعطش اللعب، شرشف التعب
وقلّة الذكاء طرب الإعتباطيّة
هيصة الصبي بوجه الرجولة

■ ■ ■

بورك تسديد بلا هدف
غشاوة بعيدة يروق لها نظري
أفقُ جبال لا يشي بما خلفه
أفقٌ من صفائح زائفة