ها أنا ذا قد عدت لأكتب عن ألمي بجرح الوطن، بعد طول علاج وفراش وألم ذاتي وابتعاد قسري عن الكتابة، وألم في خاصرة الوطن. ألمٌ ليس من السهل أن يشفى إلا بالحرية
زياد جيوسي
كنتُ في طريق العودة إلى أحضان رام الله، يشدني الشوق بعد غياب، أحلم بلحظات الوصول وأنا أمر وأصدقاء لي عبر حواجز الاحتلال، وقرف الاحتلال. يشدني الشوق والحنين والحب إلى رام الله، أنتظر لحظات الوصول لألقي حقيبتي وأجوس في دروبها، أتنشّق الياسمينات المتسلقة الحيطان، أستظل دفء بركة والحور العتيق. كان يوم سبت، وكنت أعلم أن اليوم التالي عطلة رسمية، ما سيتيح لي فرصة التجوال وممارسة العشق لمدينة لا أمتلك إلّا أن أعشقها بجنون.

■ ■ ■

وصلنا إلى استراحة أريحا، وبدأت رحلة الانتظار لركّاب جدد يملأون معنا السيارة، حين علمنا أنّنا نمرّ بيوم سبتٍ أسود. تدافعنا جميعاً نراقب الفضائيات في قاعة الاستراحة، نتألم ونتمزّق ويشدنا الغضب، فقد بدأ دمنا ينزف في غزة، أشلاؤنا تتناثر مزقاً. جنون المحتلّ وقهره وبغضه وحقده تتدفّق. طائراته تهدم المباني وتقتل شعبنا المحاصر هناك. إنّه الجنون الاحتلالي والحقد المطبق. تدفق الدم شلالات تروي الأرض، وتشعل زيت مشعل الحرية الآتي. فلا مشعل حرية يضيء بغير الدم الزكي.

■ ■ ■

غادرنا أريحا بصمت وألم. تبخرت الفرحة بقرب الوصول إلى رام الله، ولم يبقَ هناك إلا اشتعال النار في الصدور، الغضب والألم. تأخّرت المسافة للوصول، فقد استنفر جيش الاحتلال في الطرقات، وخرج الرجال الرجال من أطفال الحجارة يرشقونه بحجارة الغضب والألم. وما إن وصلت، كان همّي أن أتواصل مع أصدقائي هناك تحت النار، أولئك الذين كانوا على تواصل معي حين كانت رام الله تحت القصف والنار، وأن أتابع الأخبار والفضائيات، وأتصل بالأصدقاء لنرتّب ما يمكن فعله، وأن أنطلق للشارع للمشاركة في أولى المسيرات بعد وصولي في المساء.

■ ■ ■

في اليوم التالي، الأحد، وبالكاد غمضت لي العيون، كنت أشارك بمسيرة تجمعت في ميدان المنارة بعد صلاة الظهر. فإذا بي أرى الفصائل التي اتفقت في مساء الأمس على أن لا يُرفع سوى العلم الفلسطيني، تحضر جميعاً براياتها ولا أحد يتذكّر علم الوطن أو يلتزم بما تعهّد به. أصبت بالألم مضاعفاً، إذ لا أحد يدرك أنّ الوطن أهمّ من كل الفصائل، وأنّ راية الوطن أعلى وأهم من كل الرايات، فغادرت بغضب من هذا العهر الذي يجري، وأنا ما زلت أحلم بالطهر الذي ترسمه الدماء في غزة.

■ ■ ■

في فترة سابقة كتبت مقالاً سمّيته «نكبتنا في قياداتنا»، وحين رأيت ما رأيت، ووجدت فرسان الفضائيات يمتطون صهوة المايكروفونات مجدّداً، يشتمون بعضهم رغم قصف طائرات العدو ودباباته، رغم شلّالات الدم التي تسيل، أيقنت أن نكبتنا ما زالت في هذه القيادات، وأعتقد أن الوقت قد حان ليحملوا عصيهم التي ألهبوا ظهورنا بها ويرحلوا. عندها سيدرك الاحتلال أن وقت رحيله إلى الأبد قد اقترب. لم تستطع هذه القيادات أن تدرك أننا جميعاً تحت الاحتلال، تحت الحصار، وأننا جميعاً في شُعب أبي طالب بشكل أو بآخر، وليس البعض فقط كما يظنون.

■ ■ ■

قاوم شعبنا في غزّة ثلاثة أسابيع، انزرع الشهداء كالسنديان بالمئات، وانسكب دم جرحانا بالآلاف، وتحرك العالم بمسيرات الغضب، هذه المسيرات التي إن لم تتحول إلى وسائل للتغيير، فستذهب الصرخات بانتهاء الحدث. واستمرّت القيادات بالردح العلني، غير مدركة أنّ ما جرى في غزة والدماء التي سالت فيها، والدماء التي تسيل في الضفة المحتلة من بين جموع الغاضبين والمقاومين بصدورهم العارية للاحتلال، ما هي إلا استهداف للوطن وقضية الوطن بأكمله، وليست مجرّد مساسٍ بفصيل أو بتنظيم. آن الأوان للخجل والحرص على الوطن قبل الفصيل والذات.

■ ■ ■

هو الألم ما زال يعتصرني منذ اليوم الأول للمعركة، وازداد مما رأيته خلال المعركة، ويزداد مما أراه بعد المعركة. فما زلنا نختلف كالقطتين على قطعة الجبن، وما زال القرد المعادي للقطتين هو الحكم، وما زال العديد ينسون أن دم الشهداء لم يجفّ بعد. ها هم يسعون إلى الاستئثار بالغنائم، من دون أن يستفيدوا من الدرس ويراجعوا الأخطاء، ودون أن يدركوا أنّ الاحتلال لا يفهم سوى لغةٍ واحدة لا غير، وأنه بدون وحدة الموقف والصف والفكرة، فلن تصل الفكرة إلى الاحتلال، وسيبقى يعيد شلالات الدم من جديد.

■ ■ ■

آه يا وطني، آه يا غزّة، آه يا دماء الشهداء، متى يُدركون؟ متى يتعلمون؟ أشكّ في أنّ ذلك سيحصل. فليرحلوا عنا، حتى يكون لدماء الشهداء قدرةُ الإنارة لمشعل الحرية، ليوم الصباح الأجمل يوم نهتف جميعاً: يا الله هذه الكلمة الحلوة... الحرية ما أجملها.

■ ■ ■

أعود أحلم برام الله بعد غياب قسري جديد. منذ اليوم الثاني للمعركة، صرت نزيل المشفى والعلاج. ثمّ تقَرّر أن أتعالج في عمّان، بعد ثمانية أيام كنت أصرخ فيها من ألم الجسد المرضي، وألم الروح التي تتمزّق مع غزّة. تقرّر سفري لانعدام وسائل العلاج المناسبة من أجهزة لازمة في رام الله. لا أمتلك والألم ما زال يعتصرني، إلا أن أصرخ من القلب، لكم الجنة يا شهداء الوطن، لكم الشفاء يا جرحى الوطن، لكم الشكر أيها الأطباء في رام الله وعمّان، لكم الحب يا أهلي وأصدقائي وأحبتي على وقفتكم معي. ها أنا ذا قد عدت لأكتب عن ألمي بجرح الوطن، بعد طول علاج وفراش وألم ذاتي وابتعاد قسري عن الكتابة، وألم في خاصرة الوطن غزة. ألمٌ ليس من السهل أن يشفى إلا بالحرية.

■ ■ ■

صباحك أجمل يا وطني، صباحك أجمل يا غزّة الصمود والشهداء والوطن، صباحك أجمل يا رام الله الشوق والحب وجمال أحلام لا تفارقني، صباحك الأجمل يا طيفي الحلو الشقيّ الذي أشتاق إليه. أحتسي القهوة بعد غياب عنها، أنظر من شرفتي، أستمع إلى فيروز تشدو: «خدني عَ تلّاتها الحلوة/ خدني على الأرض اللي ربتنا/ نساني على حفافي العنب والتين/ واشلحني على ترابات ضيعتنا... / أبواب العتيقة عم تلوحلي/ وصوت النهورة ينده الغياب/ وعيون عَ شبابيك تشرحلي/ صحاب عم بتقول نحنا صحاب/ وأمشي على طرقات منسية/ دنيت غياب وراح يغيب الصيف/ وأنطر شي إيد تسلم عليّ/ وشي صوت عم بيقول مسا الخير».
صباحكم أجمل.
عمّان ــــ 2008/1/22