الرواية القاتمة على شاشة بيضاء بعيداً عن الأكشن الهوليووديزياد عبد الله
لن يغوص فرناندو ميريلس في أحشاء ريو دي جانيرو، ويروي مصائر صبية الشوارع كما فعل في «مدينة الله» (2002). ولن تكون بداية فيلمه الجديد بسكاكين تُشحذ، ودجاج يُسلخ على إيقاع السامبا... كما أنّ شاغي وكليبر وغوس وغيرهم من صبية الشوارع لن يظهروا مجدداً كما في أول وآخر مرة فعلوا ذلك. يمضي السينمائي البرازيلي في جديده إلى رواية أخرى ينقلها إلى الشاشة الكبيرة: إنّها «العمى» لخوسيه ساراماغو التي اقتبسها بعد ثلاث سنوات فقط من نقل رواية معلم الرواية الجاسوسية الإنكليزي جون لوكاريه. يومها، ترك لبطليه في «البستاني المخلص» أن يتجوّلا في القارة الأفريقية، حيث شركات الأدوية المتوحّشة تحوّل الأطفال إلى فئران تجارباستغرق إقناع ساراماغو باقتباس روايته سنوات. خوف الروائي البرتغالي كان مشروعاً، فالمعالجة الهوليودية كانت ستحوّل العمل إلى فيلم خيال علمي مع قدر كبير من «الأكشن». لكنّ ذلك لن نعثر عليه في فيلم ميريلس الذي يعي ـــــ ومعه كاتب السيناريو دون ماكلر ـــــ مجازات الرواية ومشاغلها الإبداعية، أو كما قال ميريلس «سآخذ الرواية عميقاً عبر رؤية تَنقل العمل من الفضاء الروائي إلى السينمائي، مركّزاً على فقدان البشرية للبصيرة قبل البصر... وكيف أنّنا ما زلنا على شيء من الحيوانية المغلفة بقشور الحضارة التي سرعان ما تسقط عنا، ويسقط معها المنجز الإنساني، وتحديداً في إصرارنا على تخريب الكوكب الذي يحملنا بصبر، وقد ضاق ذرعاً بنا». ما تقدَّم يشكّل وعياً صارخاً يقارب به ميريلس أفلامه مع حرصه المستميت على «الاستقلالية». عرف العالم انطلاقة هذا السينمائي مع «مدينة الله» (مدن الصفيح) الذي صوّر امتزاج البؤس بالجريمة عبر ثلاثة أجيال من عصابات الشوارع من الفتية الصغار. هذا الالتصاق بالبؤس البرازيلي سيقوده في «البستاني المخلص» إلى البؤس الأسمر، والتقاط ما يشكّل عصباً رئيساً في عالمنا الجديد. هكذا، سيأتي الفيلم فضحاً لعلاقة المستعمِر بالمستعمَر، وفقاً لما فرضته السنوات الثلاثين الأخيرة على إيقاع هذه العلاقة والتعديلات التي لم تمسّ إلا الشكل، مع تطوّر أشد مكراً في ما يخصّ آليات الاستغلال التي تتبدى أكثر في القارة الأفريقية.
تشكّل الحقيقة محرِّكاً لسير الحبكة الدرامية المحكمة لـ«البستاني المخلص» وثمناً سيدفعه كلّ من يسعى إليها. ولعل ذلك لا يحمل أي جديد، لكن ما يميّز هذا الشريط هو الإيقاع وتناغم الدراما السياسية مع قصّة حب عاصفة بالتباساتها ومآسيها بين جوستن (رالف فينس) وتيسا (راشيل وايز). إذ يتزوجان وينتقلان إلى كينيا حيث يعمل جوستن في المفوضية البريطانية، مخصّصاً وقت الفراغ لحديقته كملاذ من العالم الخارجي. بينما تتفرّغ تيسا للأعمال الإنسانية في مدن الصفيح، محاربةً الفقر والسل والإيدز، فتُقتل على أيدي من تَشكل تهديداً لمصالحهم.
ينتقل الفيلم من مرحلة التوثيق البصري للبؤس الأفريقي إلى مرحلة التوثيق الوقائعي عبر فضح التواطؤ الاستعماري مع شركات الأدوية (باعتبارها مثالاً)، فيُظهر كيف أنّ سكان هذه القارة ليسوا سوى «فئران مختبرات» لتلك الشركات. يتبدّى كل ذلك حين يخرج جوستن من حديقته إلى الواقع المحيط به بعد مقتل تيسا، فتبدو أفريقيا ـــــ خلال رحلة بحثه عن قاتل زوجته ـــــ عالقةً في مشكلات أزلية وصنيعة توحّش استعماري يشتدّ ضراوة.
أمّا «العمى» فيبدأ عند إحدى إشارات المرور، حيث سائق يُصاب فجأة بالعمى فيسرق أحد المارة سيارته. لاحقاً، ينتشر الوباء وتتسع الدائرة: سارق السيارة، زوجة صاحب السيارة التي تصطحبه إلى طبيب العيون (مارك رافلو)... أما الناجية الوحيدة من هذا المصير فهي زوجة طبيب العيون (جوليان مور). ولدى انتشار الوباء، يجري الحجر عليهم بمن فيهم زوجة الطبيب، فتكون أمام مفارقة عجيبة: الكلّ حولها أعمى وهي الوحيدة المبصرة. تلك هي الحلقة الرئيسة من المصابين بهذا الوباء العجيب، حيث يرى المصاب أمامه صفحة بيضاء عكس العتمة التي تسكن عيون العميان.
لكنّ الحجر سيكون مساحة لتأسيس علاقات اجتماعية جديدة بين البشر وبدايةً جديدة للبشرية، لكن بشرية عمياء، ستجد مشقّةً في توفير حاجاتها الأساسيّة فتملأ المكان بالأوساخ.
مع تزايد أعداد العميان، ستحضر الملكيّة، وسيكون على أحدهم أن يستعبد الآخر، وهذا ما يحدث ما إن يمتلك أحد العميان مسدساً. وبهذه السلطة، سيحتكر الطعام ويضطر الآخرون للخضوع له إلى أن تقتله زوجة الطبيب كونها المبصرة الوحيدة. ثم تثور المهاجع على الديكتاتور المقتول وتنتهي تلك الثورة باحتراق المبنى الذي يجمعهم، وتكتشف زوجة الطبيب أنّ الحراس ذهبوا وفُتحت الأبواب، فيكتشفون أنّ العمى أصاب كل البشر، وصارت المدينة مدينة أشباح لا تبصر.
الفيلم مسكون بالأبيض، مضافاً إليه المرايا وما ينعكس على سطحها. ولعل عناصر المفاجأة تأتي دائماً من اللقطة واللعب على اللون الأبيض. كذلك فإن التشويق لم يأت من انعطافات حادة، بل كان يمضي في سرده البصري على قدر واحد من التحفيز المتواصل وعلى درجة واحدة محكمة.