بين مقترحات الرواية الجديدة وثراء السرد العربي القديم

من الروافد الأساسيّة في مسار الأدب الجزائري. بدأ بالفرنسيّة (التطليق)، ثم انتقل إلى الضاد... أجرى جردة حساب مع ميراث حرب التحرير (التفكك)، وواكب سنوات الإرهاب بالقلم والمسدّس (أيام الفزع). وها هو يصدر نصوصاً شعرية مرفقة برسوم رشيد قريشي (المجتزآت الخمس للصحراء). وقفة مع الكاتب الاستفزازي الذي لا يتعب من المعارك

خليل صويلح
برز اسم رشيد بوجدرة (1941) في الرواية الجزائرية بعد جيل الرواد مباشرة. هذا الجيل الذي انخرط في حرب التحرير، فكتب نصوصاً تعبّر عن المقاومة. ولعلّ رواية كاتب ياسين «نجمة» مثالاً ناصعاً على تلك الحقبة، سواء لجهة السرد التقليدي أو الانهماك بالحكاية الواقعية المشوبة بمسحة رومانسية. لدى بوجدرة، ذهبت الرواية إلى مناطق مغيّبة وخشنة في مقاربة أرض مالحة وزئبقية. وإذا بباكورته «التطليق» (1969) التي نُشرت بالفرنسية تخترق كل المحرّمات. «كان مستحيلاً نشرها بالعربية» يقول بوجدرة مستعيداً «سيرة الكتابة» في ندوة أقامتها أخيراً صحيفة «الثورة» السورية، احتفاءً بتجربة صاحب «الحلزون العنيد».
في روايته الأولى وما تلاها، اقتَحم بوجدرة الأسلاك الشائكة، وغاص في متاهات المخيّلة والذاكرة، مراهناً على خلخلة السرد التقليدي بتقنيات جديدة، تتوقف في منتصف المسافة بين مقترحات الرواية الجديدة وثراء السرد العربي القديم، وخصوصاً «ألف ليلة وليلة».
هاجر إلى باريس (1970 ـــــ 1975) بعدما مُنع من الكتابة في جزائر ما بعد الاستقلال. وبعد غياب، اتّصلت به وزارة الثقافة الجزائرية طالبةً منه العودة لكتابة سيناريو «وقائع سنوات الجمر» الذي أخرجه محمد الأخضر حامينا. حصد الشريط «السعفة الذهبية» في مهرجان «كان» (1975)، وخاض كاتبنا تجارب سينمائية أخرى مثل «علي في بلاد السراب» لأحمد الراشدي (1978)، و«نهلة» الذي يدور في ديكور الحرب الأهليّة اللبنانيّة لفاروق بلوفة (1979)، وأخيراً «اللآلئ السمراء» (2008) مع مرزاق علواش.
يرى بوجدرة أن «لا كتابة مهمة من دون طفولة مجروحة». ويشرح لنا خلال حوار على هامش ندوته الدمشقيّة الأخيرة: «لو لم نكن مجروحين في طفولتنا لما اقتحمنا حقل الكتابة. شرخ أو جرح في الطفولة، سيفتح المخيّلة على غواية الحكي». ويضيف صاحب «فوضى الأشياء» (1988): «أنا تلميذ لفرويد وماركس وأينشتاين، وبالتالي فأنا رجل مجروح»، ويستدرك: «ليس هناك إبداع سعيد. الشخص السعيد إنسان أبله».
هل الألم وحده مَن يضيء عتمة الداخل؟ «لا شك في أنّ الألم لعب دوراً أساسياً بالنسبة إليّ قارئاً وكاتباً»، يجيب مستعيداً الألم في كتابات دوستويفسكي وسمفونيات بيتهوفن، ولوحات غويا التي «لولا الألم لما وجدنا فيها سوى القبح».
كان عليه، كما يقول، أن يطوي صفحة حرب التحرير الجزائرية في نص فضائحي ومكشوف. هكذا جاءت «التفكك» (1982)، أول رواية يكتبها بالعربية، بمثابة تصفية حساب مع مرحلة ملتبسة تخلّلتها أوهام كثيرة، وبطولات مزيّفة... كذلك أفرد أحد خطوطها لنقد الحزب الشيوعي الجزائري الذي لم يلتحق بجبهة التحرير إلا بعد سنتين من انطلاقتها. نسأله: «التفكك» نصّ عن العشق والجنس والكراهية؟ «أكتب بلا تابوهات، ولا أفكّر بالمحرمات. ما أن أبدأ الكتابة حتى أقول لنفسي: حذارِ الرقابة الذاتية، حتى إنّني أبالغ في حريتي كي لا أسقط في فخ الرقابة. أنا كاتب استفزازي».
ينفي بوجدرة أنّ تكون الكتابة بالفرنسية قد أتاحت له فسحة إضافية لاقتحام المحرمات، ويقول: «على العكس، أنا أمارس حريتي بالعربية أكثر مما أمارسها بالفرنسية. العربية تتيح لي استعمال مفردات شعبية تعبّر عن روح شخصياتي بواقعية أكبر، وأجد في اللغة السوقية التي يستعملها أهالي المنطقة الشرقية في الجزائر، فسحةً أخرى للاشتباك مع حيوات لا مرئية تعيش على هواها».
سيهزأ بوجدرة حين يعتبره بعضهم كاتباً جنسياً، ويقول محتداً: «ما أكتبه لا يساوي شيئاً مما كتبه أسلافنا، أمثال أبي نواس والتيفاشي وبشار بن برد، ثم إنّ الشتائم والإيحاءات التي تبدو كأنها ضرب من تحت الحزام، لا تلفت أحداً في الجزائر. لم أخترعها. إنّها مجرد استعمال لغوي رائج وعادي في الحياة اليومية للبشر هناك».
ويلفت صاحب «ألف وعام من الحنين» إلى أنّه لا يعتقد بوجود أبطال في روايته، بل «شخوص روائية»: «لا أظن بوجود بطل مطلق. في كل شخصية نسبة من الشجاعة والجبن، وكمية هائلة من المتناقضات». وهو حين يسترجع تاريخ الجزائر، يجده بلداً مستعمراً على الدوام «فأين الأبطال الخارقون إذاً؟ وماذا كانوا يفعلون طوال قرون من الاستعمار المتواصل؟». في رواياته، لطالما قُتل البطل، ليتسلّل إلى حياة أناس بسطاء ويختبر اللحظات الحميمة التي تنمو في الظل. في «أيام الفزع» (1993)، رصد يوميات الإرهاب في الجزائر، بتفكيك أسباب العنف الذي عصف في بلاده، وكيف واجه تلك الحقبة السوداء «بمسدس وقلم»... ذلك أنّ الجماعات الإرهابية اغتالت مئات المثقفين الجزائريين «كأنّ الكتابة تساعد في الخروج من الكابوس».
يراهن بوجدرة على رواية منفتحة على كل التقنيات، ويرى أنّ الحداثة ليست أوروبية خالصة: «أين نضع حداثة ابن رشد، وابن خلدون، والتوحيدي، والمتنبي؟». لكن هل هناك رواية مغاربية بهذه المواصفات؟ «بالتأكيد، لكنّها ستظل مزيجاً من ثقافات متعددة. لا تنسَ أنّ برشلونة أو مرسيليا، أقرب إلينا بالطائرة، من أي مدينة عربية، وهذا الاحتكاك أضفى نكهة مضاعفة على حداثة الرواية المغاربية لجهة التناص وتحطيم بنى السرد وخلخلة المستقر ومناوشة شجون الجسد ومقاربة الشفاهي والتاريخ غير المدوّن».
الجسد ثيمة تتكرر في روايات بوجدرة، كما أنّه يتماهى كراوٍ بصورة الأنثى، ويتوغّل في دواخلها وأشجانها إلى حدود التطابق مع أحاسيسها السريّة. هذا ما نجده في روايته «يوميات امرأة آرق» مثلاً. يبرّر هذا التماهي بأنّ علاقته مع النساء كانت طوباوية وأفلاطونية، بسبب نشأته في محيط نسوي «النساء في كتاباتي ضحية لهمجية الرجل، ولعل صداقاتي مع النساء عززت حساً أنثوياً لدي، حتى كدت أن أكون لوطياً».
عمله الجديد «المجتزآت الخمس للصحراء» باللغتين العربية والفرنسية (البرزخ/ أكت سود) نصوص شعرية مرفقة برسوم للتشكيلي الجزائري رشيد قريشي. هنا يختبر بوجدرة مسالك شعرية متشعبة، تنطوي على تأملات عميقة وأبعاد ميتافيزيقية، وكثافة في السرد. هكذا ينفتح النص على فضاءات الصحراء، وعالم الزهد والتصوّف بنكهة لاذعة وغموض ورحابة ووحشة.

مشاغب بلا حدود...



لا يكفي وصف رشيد بوجدرة بالكاتب الاستفزازي أو المشاكس. ذلك أنّه لا يركن إلى ضفاف مستقرة. تتنازعه أمواج اللحظة في نصوص خاطفة وخشنة وشبقية، ومباشرة أحياناً. معاركه الثقافية وسجالاته الساخنة لا تنتهي، وضحاياه بالجملة: اتَّهم الطاهر وطار بأنه روائي مخاتل وركيك، فردّ عليه صاحب «اللاز» باتهام مضاد مرفقاً بالوثائق «لا يحق للص، نشر نصوصاً للشاعر محمد بنيس باسمه، بأن يحاكم الآخرين». ثم فتح النار على خليدة تومي، وزيرة الثقافة الجزائرية، واتهمها بممالأة السلطة وتخريب الثقافة الجزائرية. كذلك لم يسلم واسيني الأعرج من لسانه السليط، وكانت آخر اتهاماته موجهة إلى أدونيس بعد محاضرته العاصفة في المكتبة الوطنية في الجزائر، قبل أشهر. قال عنه إنّه «طائفي وبعثي». هذا النزق يعبّر بلا شك عن مبدع طليق، لكنّه يضعه أيضاً في أتون سجالات مجانية لا تتجاوز المانشيتات العابرة وتعليقات مواقع الإنترنت، المشجعة أو المضادة لأفكاره. هناك بالطبع مَن يكفّره، وآخرون يضعونه على قائمة ترشيحات «غونكور» بل «نوبل» أيضاً.
في ندوته الدمشقية الأخيرة، لم يشأ بوجدرة الحديث عن خصومه، واكتفى بتذكّر أصدقائه: «كان جورج حبش صديقي، هو من ساعدني على زيارة المعسكرات الفلسطينية في سوريا ولبنان». وإسرائيل؟ تلك الرحلة التي كانت حصيلتها الميدانية كتابه «يوميات فلسطينية» (1972). اليوم يفكّر صاحب «فندق السان جورج» (2007) إعادة التجربة بكتابة نصوص عن حرب تموز 2006، وربما حرب غزة الأخيرة: «سأكتب بعقلانية عن بعد، فالانفعالات المباشرة تفتقر إلى أصالة التجربة». ويستعير مقولة للرسام الفرنسي جورج براك: «أرسم كما يعلّق أحدهم قبّعته على المشجب، إذ أعلّق مضايقاتي وهواجسي على اللوحة».
في عموده الأسبوعي «جداريات بوجدرة» في ملحق «الثورة» الثقافي الذي يصدر في دمشق، يتجوّل الروائي الجزائري المارق في تخوم الكتابة وأشجانها ومقاصدها، بوصفها أداة لتخفيف الأذى عمّا يفرزه الواقع اليومي، لكن من دون أن تفقد (هذه الكتابة)، بريقها السردي والبلاغي والجمالي، وذلك عبر «بث التشويش في المعطيات الواقعية، وضخ شحنة من الذاتية فيها».
الكتابة الإبداعية، كما يراها، ليست تقريراً جافاً عن الواقع، بل شغفاً بالعالم الذي يعبّر عمّا يساوره من هواجس وأسباب الذعر والمآسي وتحريك الأشجان: «على الكتابة أن تدير ظهرها للمألوف، بتعرية الواقع وإضفاء رداء آخر عليه بالحفر في الأعماق» يقول بوجدرة. لعله يلتقي هنا برولان بارت في «الكتابة في درجة الصفر» حين يحكي عن اجتراح نصوص عنيفة ومغايرة، تتجاوز قوانين المجتمع والتاريخ. كتابة شرطها الجوهري هو «المغالاة والتطرف، بلا قيد، أو شرط أو حدود».