تغنّي وتعزف على البيانو بمشاركة الشاعرة ندى الحاج

في مؤلفاتها نَفَسٌ كلاسيكي محافظ، ولديها تجربة غنيّة في مجال الحديث والمعاصر. تجمع بين الحلاج وأنسي الحاج و... عبد العزيز خوجة، بين الرصانة الأكاديميّة والتمكّن الأدائي وغزارة الإنتاج. تميل إلى النمط الغربي، وهمّها تطوير الأغنية العربية. تلك هي رائدة الغناء الأوبرالي العربي التي نلتقيها الليلة في بيروت

بشير صفير
لا مجال للتقويم الموضوعي والشامل لِما يمكن وصفه بالظاهرة الغامضة. ينطبق هذا التعبير على هبة القوَّاس، المؤلفة الموسيقية ومغنية الأوبرا اللبنانية، صاحبة التجربة الفنيّة الغزيرة إنتاجاً، المتمكّنة أكاديمياً والمليئة بالإنجازات والجوائز والمناصب والاحتكاك بالرموز الموسيقية العالمية. هل الصورة التي تظهر فيها في الإعلام هي صورتها الحقيقية؟ كلا. وهذا يطال الشخصيّ كما الفنيّ. طبعاً هذه الصورة ليست مزيَّفة لكنّها مجتزأة. إذ تتبدّد لدى لقائها تلك الهالة الطوباوية والروحانية (الصرف) التي نعرفها فيها. وعلى المستوى الفنّي، ما نعرفه منها ـــــ أي أسطوانتها الوحيدة «أغنّيك حبيبي» (1996) ـــــ ليس سوى النموذج البرعمي وغير الناضج من تجربتها. وإذا أضفنا إلى الأسطوانة أعمالاً بثّها التلفزيون، وأخرى سمعناها في حفلات، لا يمكن الخروج برأي نهائي عن هذه الظاهرة الفنية. كل ما يمكن قوله إنّ هبة القوَّاس تغرِّد خارج السرب في فضاء الموسيقى والأغنية العربية. هذا التغريد هو أكثر جديّة وجهداً من نشاز سرب الغناء العربي المعاصر، وبالتالي أجدر بالتناول والبحث.
هذا المساء، تطلّ هبة القوَّاس على الجمهور من «الجامعة اللبنانية الأميركية» في بيروت، لتغنّي من مؤلفاتها وتعزف على البيانو برفقة أندريه الحاج (عود)، وعلي الخطيب (دفّ)، ووليد ناصر (طار). على برنامج الأمسية أعمال غنائية من ألحان القوَّاس، انطلاقاً من نصوص شعرية لندى الحاج (الحصة الأكبر)، وأنسي الحاج، وهدى نعماني، والحسين بن منصور الحلّاج، وزاهي وهبي، وراغدة محفوظ، و... عبد العزيز خوجة. ويُعرض للمناسبة الفيلم الغنائي القصير «نور» (سيناريو وإخراج كميل ملّاط) الذي وضعت موسيقاه هبة القوَّاس استناداً إلى قصيدة «أسرى بقلبي» لعبد العزيز خوجة... إضافة إلى قراءات لندى الحاج من شِعرها، ترافقها ارتجالات موسيقية.
إذا قررنا تناول تجربة هبة القوّاس (صيدا ـــــ 1972) من خلال مجموعة أسئلة، فكلّ جوابٍ محكومٌ بـ«لكِن»: هل هبة القوّاس هي فعلاً رائدة الغناء الأوبرالي العربي؟ نعم، فهي الأغزر والأكثر جديّة في جيلها على الأقلّ. لكن سبقتها تجارب لم تتبلور أو لم تلقَ إحاطة كافية. نذكر في هذا الإطار المغناة الدرامية «بطاقة هوية» (شعر محمود درويش) للباريتون والكورال والأوركسترا، وضَعَها المؤلف الفلسطيني سلفادور عرنيطة بين 1968 و1969 وقدِّمَت للمرة الأولى عام 1970... هل هي فنانة الاعتدال العربي إقليمياً وصوت الحريرية محليّاً؟ كلا، فالأغلبية الساحقة من أعمالها بُنِيَت على قصائد ذات طابع وجداني وإنساني غير مُسَيَّس، وتضاف إليها أعمال موسيقية صامتة لا تحمل عناوينها دلالات تضعها في هذه الخانة. لكنّها لحّنت نصوص السفير السعودي في لبنان عبد العزيز خوجة، والسيدة نازك الحريري، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، والأميرة حصّة آل سعود... إضافة إلى أنّ عرابتها منذ البداية هي الوزيرة والنائبة بهية الحريري، وهذا أمر يعنيها ولا ينبغي أن يؤثر في تفاعلنا مع إبداعها لا سلباً ولا إيجاباً... هل فنّها عربيّ شرقيّ أم غربيّ؟ طليعيّ وتجديدي أم محافظ؟ هناك ميل واضح إلى الغربي شكلاً ونغماً. لكنّ هبة لم تهمِّش الشرقي بآلاته وإيقاعاته ومقاماته، ونصّها الشعري عربي بامتياز.
من جهة أخرى، في مؤلفاتها نَفَسٌ كلاسيكي محافظ، يحاكي في جزئه الأكبر حقبة ما بعد الرومنطيقية. ولكن لها رأيها في الموسيقى المعاصرة التي تعتبرها انتهت من مرحلة التجريب الصوتي، ودخلت في البحث مجدداً في العالم النغميّ (وهذه وجهة نظر صائبة وذكيّة). وتملك هبة أيضاً تجربة غنيّة مع الحديث والمعاصر وتحرص على عدم تقديمها إلى الجمهور العربي غير المتآلِف مع هذا التوجُّه.
هذه الأسئلة وغيرها تدلّ على ظاهرة استثنائية في الموسيقى العربية المعاصرة، همّها الأول ـــــ رغم تعدّد الوسائل ـــــ هو محاولة تطوير الأغنية العربية من خلال فتحها على آفاق الموسيقى الكلاسيكية. وما نعرفه (وهو قليل نسبياً) من نتاج هبة القوَّاس، فيه الموفَّق وفيه الركيك (قد تكون الغزارة الاستثنائية في التأليف أدّت دوراً سلبياً في هذا السياق)، تماماً كتجربة أي مؤلف (بدءاً من موزار). إذ إنّ المعدل العام يحدِّده فقط الفارق في النِسَب.
أما النتيجة أو الخلاصة الصوتية في الأعمال الأوركسترالية فهي العنصر الأبرز الذي يجب على المؤلّفة اللبنانية العمل على تنويعه (أو تطويره بما أنه حاضرٌ) وإيجاد مزيج يقدم احتمالات جديدة، غير مألوفة وغير نافرة في آنٍ، لتطال على حدٍّ سواء، الأذن «المتطلبة» فيرضيها، والأذن «العذراء» فلا يخدشها.
وأخيراً، إذا كانت موسيقى هبة القوَّاس «تغبط» أصحاب الفخامة والجمهور المخمليّ، ألا تستأهل موهبتها، على سبيل التجربة، توظيفاً مغايراً، يحتك بناسِها وهمومهم اليومية (نصاً ونغماً)، بعيداً عن قيود الموسيقى الكلاسيكية وبروتوكولاتها و«المُوْلعين» بها في العالم العربي؟


8:30 مساء اليوم ـــ الجامعة اللبنانية الأميركية (بيروت) ـــ للاستعلام: 01/786456