«إنديا سونغ» أكثر من فيلم. إنّه علامة أساسيّة في تجربة الكاتبة الفرنسيّة التي خاضت أيضاً في السينما والمسرح

سناء الخوري
«عرفت الأصوات قصةَ هذا الحب، أو قد تكون قرأتها منذ زمنٍ بعيد. بعض الأصوات تتذكّر القصة، ولكنّ لا أحد منها يتذكّرها بالكامل، ولا أحد أيضاً نسيها كلياً». ذلك الحب هو قصة آن ــــ ماري ستراتر، بطلة فيلم مارغريت دوراس «إنديا سونغ» (1975) الذي يعرضُ مساء اليوم في بيروت، ضمن تظاهرة Femmes d'images, Femmes de lettres تكريماً لتلك «الكاتبة التي تشتغل في السينما» كما كانت صاحبته تعرّف نفسها.
على حافة الذكرى والحب والموت، وعلى أنغام موسيقى كارلوس داليسيو، ترقص بطلة الفيلم، زوجة السفير الفرنسي في كالكوتا، مع عشيقها في حفلة استقبال. صوت نائب القنصل، المتيّم بحبّ البطلة، يخترق رتابة المشهد المتوازي مع صورة قبرها، حيث رقدت بعد نزهة غامضة لم تعد منها... في إحالةٍ إلى انتحارها.
الفيلم بدأ كتاباً نشر عام 1973، وتحت عنوانه الإشارة الآتية: «نصّ، مسرح، فيلم». وحين أخرجته دوراس بعد عامٍ على إطلاقه في شريط من بطولة دلفين سيريغ وميكايل لونسدال، ترسّخت رؤيتها لهذا الاختراع الهجين. «إنديا سونغ» فيلم تجريبيّ بامتياز، وهو أيضاً مرآة لمسيرة دوراس السينمائيّة.
عندما كتبت دوراس «هيروشيما، حبيبتي» (1959) الذي أخرجه ألان رينيه، بات العمل لحظة تأسيسيّة في تيّار «الموجة الجديدة». نصّ تتعدّد فيه مستويات السرد القائم على تقنيّة التداعي والاستعادة، وقد أقلع نهائيّاً عن التطوّر التقليدي التصاعدي. كانت لحظة لقاء استثنائيّة بين «الرواية الجديدة» التي شكّلت دوراس أحد أبرز رموزها، وسينما «الموجة الجديدة» التي أفرزت أمثال رينيه وتروفو وغودار... ورشّح الفيلم لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل سيناريو. إلا أنّها بعد سنوات طويلة باتت مع «إنديا سونغ» مخرجة بلهجةٍ خاصّة، وخصوصاً أنّه الأنجح بين أفلامها الـ 19. تلك التجربة تشبه دوراس كثيراً، إذ تلعب فيها لعبتها المفضّلة، بين الذكرى والنسيان، بين التحطيم والامحاء، وكلّ ذلك بحضور تفاعلي للأصوات... مخلوقات دوراس الفريدة.
تستحضر الكاتبة أصواتاً من الماضي والحاضر، لتحوم حول قبر البطلة... إلا أنّ صوتاً واحداً يعلو فوقها، هو صوت المتسوّلة المنتحبة. والمتسوّلة من الصور التي تتكرر بشكل هوسيّ في كتابات دوراس، وتحيلنا مباشرة إلى تلك الشحاذة المجنونة التي تلاحق بطلة رائعة دوراس المطلقة «العشيق» (1984) التي نالت جائزة «غونكور». في تلك الرواية، تتكشّف دوراس الإنسانة والروائيّة بحقيقتها الشفافة أمامنا. إذ تستعيد بما يشبه السيرة الذاتيّة الموارِبة، قصّة حبّها الأوّل، عشيقها الصيني الذي أغرمت به حين كانت في الـ 16، تعيش في المستعمرات الفرنسية في الهند الصينيّة، مع أمّها وشقيقيها.
في نصّ «العشيق»، كل المكوّنات اللازمة لنعرف دوراس الكاتبة. في مقاطعها التي تتوالى كهلوساتٍ مكتوبة، يمّحي الكلام بمعناه السردي خلف عيني «راءٍ» يقول ما يراه أو يتذكّره، كأنّه نصٌّ سينمائي. بين ثنايا الحوارات والوصف المقلّ، صورٌ متناثرة تروي القصّة همساً، تطرح أسئلة أكثر مما تخبر، تخلق انطباعاً أو تثير إحساساً. اخترعت دوراس مساحة جديدة للأحداث، فجعلتها ضئيلة وتافهة أمام استيهامات الأبطال وذكرياتهم ومعاركهم الداخليّة. كانت تلك مساحتها الخاصّة في قلب تيار «الرواية الجديدة» الذي لم تخض غماره بعمق، إنّما سارت بمحاذاته، مستكشفةً وسائل جديدة لكتابة «السيرة المتخيّلة» التي لم تنتهِ حتّى وفاتها عام 1996.
حياة الأديبة في الهند الصينيّة، حيث ولدت مارغريت دوناديو عام 1914، لا يمكن فصلها عمّا عاشته بعد عودتها إلى فرنسا عام 1932، حيث اتخذت لقب دوراس تيمّناً بقرية والدها المتوفى حين كانت في الرابعة. السنوات التي قضتها في المقاومة الفرنسيّة، وما رافقها من مغامراتٍ عاطفيّة ـــ حتّى مع أحد ضبّاط «الغستابو» الذي شاركت في تعذيبه بعد نهاية الحرب ـــ وصولاً إلى تحوّلها رمزاً للتحرّر الجنسي للمرأة حينذاك.
هكذا غرفت دوراس من تاريخها الشخصي وتجربتها الحياتيّة ـــ هي الفرنسيّة الخارجة من أيّام «الاستعمار»، المتمرّدة عليه ـــ لترفد واحدة من أغنى التجارب وأكثرها فرادة وتجديداً، في تاريخ الأدب الفرنسي. إنّها ابنة عصرها بامتياز.


8:00 مساء اليوم ــ المركز الثقافي الفرنسي (بيروت) : 01/420243