«صور ما بعد الكولونيالية» دراسة روي آرمز عن تأثير الاستعمار في سينما المغرب العربي، دخلت إلى المكتبة العربيّة. ينطلق الباحث من فكرة ادوارد سعيد عن ارتباط فن الرواية بالإمبريالية الأوروبية المعاصرة، ليأخذها إلى مساحة جديدة من خلال تطبيقها على الفنّ السابع
محمد خير
على رغم أنّ مصر تقع جغرافياً شمال قارة أفريقيا، فإنّ عبارة شمال أفريقيا يقصد بها اصطلاحاً دول المغرب العربي. وهي الإطار الذي يتحرّك ضمنه روي آرمز، أستاذ السينما في جامعة «ميدل سكس» البريطانية، في بحثه المرجعي «صور ما بعد الكولونيالية ــــ دراسات في أفلام شمال أفريقيا» الذي صدرت ترجمته العربيّة في القاهرة عن «المجلس الأعلى للثقافة»، بتوقيع سهام عبد السلام.
يحصر المؤلف اهتمامه إذاً بالسينما المغاربية، وإذا أمكن تلخيص «هدف» الكتاب، فهو دراسة تأثير الكولونيالية في سينما المغرب العربي بعد الاستقلال. دراسة لا تتوقّف عند الأعمال المنجزة في المغرب العربي بلسان عربي. بل يمتدّ الكتاب إلى ملاحقة الأجيال المغاربية التي عملت في فرنسا ذاتها، بإمكانات ـــ وثقافة ـــ فرنسية ليتساءل: هل أصبحت فرنسية؟ وهل من الجيّد أن تصبح فرنسية؟ وإن لم تصبح كذلك، فإلى أي حد يمكن وصفها بـ «الهجينة»؟ وهل امتلكت سينما المغرب العربي يوماً حرية صنع سوقها الخاصة، بعيداً عن الفرنكفونية وعن دعم/ هيمنة الدولة؟
كتاب ضخم من 450 صفحة يمكن عبرها ملاحظة الجهد المبذول من المؤلف، بهدف تقديم عمل يجمع بين الموسوعية والتحليل والرؤية النقدية، وينطلق من نقطة غير متوقعة التقطها في كتاب إدوارد سعيد «الثقافة والإمبريالية». إذ لاحظ سعيد ارتباط فنّ الرواية بالإمبريالية الأوروبية المعاصرة (القرن 19) إلى درجة لا يمكن فيها الحديث عن إحداهما بمعزل عن الأخرى. وتحدّث المفكر الفلسطيني الراحل عن الطاقة والقلق اللذين يكتنفان البطل والبطلة في الرواية الأوروبية. هذه الرواية تسمح لهما بمغامرات يكتسبان خلالها خبرات «تكشف لهما حدود المطامح الممكنة وإلى أي مدى يمكنهما الذهاب في تحقيقها»: ما يوضح «التقارب بين شكل سلطة السرد الروائي الذي يكوّن الرواية من جهة، وبين صياغة الأيديولوجيا المركبة التي يقوم عليها الميل إلى الاستعمار الإمبريالي».
يأخذ المؤلف حديث إدوارد سعيد إلى مساحة جديدة بتطبيقه على السينما. تسهل برأيه ملاحظة العلاقة بين أفلام هوليوود وإمبريالية الإمبراطورية الأميركية في القرن العشرين، وخصوصاً في إطار الدعم الذي قدّمته الحكومات الأميركية إلى هوليوود خلال الحربين العالمية والباردة. ويلتقط هنا مفارقة «ساخرة»، إذ إنّ أوروبا نفسها الكولونيالية (السابقة؟) عانت لاحقاً هيمنة السينما الأميركية، فأصبحت الأخيرة تكوّن أكثر من 80 في المئة من مجمل الأعمال التي تعرضها الشاشات الأوروبية وأكثر من 70 في المئة من إجمالي إيرادات التذاكر.
إشكالية الفرنكفونية وعلاقتها بالسينما المغاربية ليست حديثة، بل الأغرب أنّها لا تتعلق فقط بالسينما التي يقدّمها مخرجون من الجزائر أو تونس أو المغرب، بل تبدأ المشكلة من السينما التي صنعها فرنسيّون في المغرب العربي إبّان الحقبة الكولونيالية الفرنسية، خلال النصف الأول من القرن العشرين. تلك الأفلام «الفرنسية الخالصة» المصوّرة في شمال أفريقيا، واجهت صعوبات في توفير الدعم وجذب الإيرادات، ما دعا السلطات الفرنسية إلى دعمها. لكن تلك السلطات تقاضت ثمن هذا الدعم تدخلاً في محتوى الأفلام، فظهر المواطنون المحليون كخلفيات غير ذات أهمية، تماماً كما صورت الرواية الأوروبية (الإمبريالية/ الإنكليزية) سكّان المستعمرات.
ينقسم الكتاب إلى أجزاء ثلاثة: الأول يتناول المحطات التاريخية لسينما المغرب العربي، تطوراتها وأبرز أسمائها، مفرداً فصلاً لكل حقبة زمنية بدءاً من الستينيات. أما الجزء الثاني، فيتناول تلك السينما موضوعياً وأسلوبياً عبر اختيار 15 فيلماً بارزاً يتناول المؤلف مع كل شريط قضية تعبّر عنه ويعبّر عنها، بدءاً من السبعينيات مع «الشرجى» لمؤمن لسميحي الذي تناول «الثقافة السينمائية الأهلية» وانتهاءً بـ «علي زاوا» لنبيل عيوش (الواقعية الجديدة؟) مروراً بأفلام «وقائع سنوات الجمر» لمحمد لاخضر حمينة حيث «التاريخ بوصفه أسطورة» وعالم المخرجات التونسيات مع «صمت القصور» لمفيدة تلاتلي.
تلك الطريقة في التناول ـــــ فضلاً عن كونها وسيلة جذابة ـــــ تتيح اختراقاً عرضياً للمشكلات التي يناقشها كل فيلم، ثم الإشكاليات التي طرحها إنتاج العمل ولو من دون وعي ـــــ أو رغبة ـــــ صنّاعه. مثلاً في تناوله «وقائع سنوات الجمر» الذي حاز سعفة «كان» الذهبية، لا يكتفي بتفصيل الفصول السبعة للفيلم، أو الأسباب التي تضافرت لمنحه تمويلاً قضى على ميزانية الدعم السينمائي الحكومية لمدة 3 سنوات، بل يتطرق إلى التغييب الذي قام به الفيلم لاسم حزب الشعب الجزائري وقائده مصالي الحاج، وذلك لأسباب سياسية تعود جذورها إلى انقلاب هواري بومدين على الرئيس بن بلّة قبل ذلك بعشر سنوات. إن ذلك يلقي ضوءاً مختلفاً على حديث المخرج حمينة عن «ذاتية» الفيلم لا «تاريخيته».
الجزء الثالث من الكتاب هو قائمتان بيبليوغرافيتان، الأولى لأسماء مخرجي المغرب العربي، والثانية لأسماء الأفلام التونسية والمغربية والجزائرية من 1965 إلى 2002. المؤكد أن الكتاب القيّم، ذا الترجمة الجيدة الواضحة، يفيد كل من يهتم بالسينما أو الكولونيالية أو المغرب العربي أو كل ذلك.