أحمد الزعتري«لا شيء يميّزنا عن بقية سكان هذه المعمورة، لكنّ مصيرنا لم يكن مثل مصيرهم». هكذا تقوم سيرين الحسيني شهيد (1920 ـــ 2008) بتأطير حياتها كفلسطينيّة عاشت في القدس في العشرينيات والثلاثينيات قبل أن تضطر إلى السفر. في كتابها «ذكريات من القدس» الذي صدر أخيراً بالعربية عن «دار الشروق» (ترجمة محمد برّادة وتقديم إدوارد سعيد)، تتأمّل الكاتبة الراحلة (وهي والدة السفيرة ليلى شهيد) التفاصيل الصغيرة التي صنعت النسيج الاجتماعي في القدس آنذاك. في البداية، تصف سيرين حياتها كطفلة في القدس، عندما كانت تهوى المشي في الحديقة بصحبة والدها تتذكّر حديثه عن لاجئين أرمن يجب «أن نحسّ معهم» وإلّا فسيكون على «الفلسطينيين البحث عن ملجأ». والدها جمال الحسيني، ستنفيه بريطانيا عام 1936 بسبب مواقفه الوطنية الرافضة للاحتلال البريطاني وإثر تسليم الأرض لليهود. وعلى رغم منصبه كمستشار للملك عبد العزيز آل سعود، فإنّه سيصبح هو لاجئاً مع المرأتين اللتين سيتزوّجهما وسيموت عام 1982 في الرياض.
كانت سيرين الطفلة تجد بهجتها في شقائق النعمان في ربيع القدس، أريحا في الشتاء، تلك البلوطة التي اشتراها جدها فيضي العلمي عمدة القدس في الدولة العثمانيّة، من فلّاح في قرية شرفات القريبة من القدس في الصيف. كل ذلك سيشدّها إلى المكان الذي نبتت فيه روحها «لقد تبيّن لي أن أسعد ذكرياتي هي صور أمكنة أكثر ما هي صور كائنات بشريّة».
هنا تقع الحسيني على سرّ هذا التعلّق الأبدي بفلسطين، مَن منّا لم يسمع فلسطينيّاً يقول إنّ بلده هو أجمل بقعة في العالم؟ حتى إنّ حسين البرغوثي، نذر كتابه «سأراك بين اللوز» للحديث عمّا يربطه فعلاً بتلك الأرض. هذه المقدّمة التي تغرق الحسيني في وصف تفاصيلها ستصل بنا إلى أحداث إضراب 1936 وبداية العمل النضالي. وستروي وقائع قيام ابن خالها سامي الأنصاري بمحاولة اغتيال قائد شرطة القدس فيستشهد لاحقاً. وتمضي إلى رواية قصة أم عابد المشهورة التي رفضت التعرّف إلى جثة ابنها حتى لا يقوم الجيش البريطاني بتشريد أهل قريتها.
سيرين ستصبح لاجئة كآلاف الفلسطينيين في لبنان حيث ستتزوج، وتشهد عصراً جديداً «لم نفهم فوراً أنّ هناك حياة جديدة تبدأ بالنسبة إلينا غداة وصولنا إلى بيروت. كنا قد اجتزنا الحد القدري بين حياتنا في القدس وحياة المنفى؛ إلا أّنه كان يلزمنا عدة عقود حتى ننتبه حقيقة إلى ذلك».
وفعلاً ستمر عقود قبل أن ترجع الحسيني مع عائلتها إلى أريحا ثم القدس عام 1972، لتجد عائلة يهوديّة عراقيّة احتلّت منزلهم. تصل سيرين في النهاية لتجد صورةً لنساء من أربعة أجيال: جدة والدتها، جدتها، والدتها وهي. هذه الصورة التي لم ينجح المحتلّون ـــ حتى الآن ــــ في تحقيقها عملياً على الأقل. من هنا، تأتي أهميّة هذا التوثيق الشخصي للحياة الاجتماعيّة في فلسطين. نذكر تماماً كيف تبرّع كاتبٌ في مجلة Commentary للتنقيب عن حياة إدوارد سعيد بعد إصداره «خارج المكان»، ليحاول دحض ذكريات المفكّر الفلسطيني الراحل، ويقنع قرّاءه بأن الرجل لم يعش في القدس أصلاً. أما سيرين الحسيني، فمهرت قبل رحيلها تلك السيرة القيّمة بصورة ترسّخت على مر الأجيال، كأنها لا تأبه بما حصل من «تغييرات لا نظير لها في التاريخ».