تجاوز الهندسة التقليدية إلى موسيقى الجاز والبلوز خليل صويلح
ليس ما يقدّمه خالد الساعي في «المركز الثقافي الفرنسي»، في دمشق، مجرد خط عربي وعرض مهارات تقليدية، بل أعمال بصرية تتعدى رمزية الحرف العربي لتضعه في مقام لوني آسر. هذا الخطاط السوري ما انفكّ يطوّر أدواته، وإذا بلوحته تختزل المعنى المباشر للحرف إلى تجريد حسّي يتّكئ على مفردات الفنون الأخرى من دون فقدان بوصلته الأولى «الحرف».
معرضه الحالي حصيلة تجوال ثلاث سنوات في العالم، من سمرقند إلى قرطبة وكولومبيا وأصيلة. هكذا تتحول مشاهداته إلى نغم لوني يختزن انطباعات آنية ومرجعيات شخصية تقود الحرف إلى تكوينات تعبيرية تتماهى فيها الخطوط إلى منطقة أبعد من الرمز المباشر.
انكبّ الساعي (1970) على دراسة تاريخ الخط العربي من ابن مقلة وابن البوّاب، إلى المقترحات المعاصرة للخط الإسلامي، على يد الخطاط التركي علي ألب أرسلان. كانت بوابته الأولى في التدريب على النسخ نصوص جلال الدين الرومي، فوجد في أشعاره نكهةً صوفية عالية، عززت لديه روحانية الخط العربي. لكنّه تعلّم كيفية الخروج على القواعد الصارمة للخط، نحو تعبيرات شخصية تمزج الكتابة بالصورة باستخدام أدوات جديدة مثل الزيت والأكريليكهكذا حطّم الهندسة التقليدية للحرف، وانتقل من التدوين إلى البحث العميق عمّا خلف الخط، بأسلوبية مبتكرة تُلغي المعنى المباشر للنص، وتبحث عن المخبّأ في العبارة المكتوبة، تبعاً لمخيّلته البصرية. في مراحل عمله الأولى، اتكأ على 60 نصاً لمحمود درويش، وراح يراود المعاني البعيدة في قصائد صاحب «الجدارية» بإقامة علاقات جديدة بين المفردة ومعناها، ليتجاوز حدود اللغة إلى أبعاد كونية، تضع نصوص المتنبي وسعدي يوسف مثلاً في الحيّز البصري عينه لنصوص سان جون بيرس، ورامبو... عبر صهر الخط باللون والتحكّم بالكتلة والفراغ، تبعاً لتصوراته التشكيلية التي ترتكز إلى بعد موسيقي واضح.
وهذا ما تكشف عنه لوحاته التي اعتمدت الجاز والبلوز مرجعية موسيقية لخطوطه الإيقاعية، وحصيلة رحلته إلى أميركا الجنوبية: ألوان حارّة وحروف متراصة تصوغ أبجدية على خلفية سوداء حالكة، لكنّ هذه الألوان الداكنة ستنفتح على رحابة الأخضر في «مقام شرقي» أو «قرطبة»: هنا تتخلّص اللوحة الحروفية من حيّزها الكلاسيكي نحو حداثة كونية تحتفل بالمجردات لتنشئ حقلاً بصرياً موازياً ينسف النظرة الأولى للمعنى المباشر للمفردة. فـ«ليل دمشق» لا يحيل إلى حرف الدال مثلاً، بل إلى حرف الحاء. هل هو حب، أم حداء في صحراء؟
إنّه ليل أخضر في كتلتين متقابلتين يصهرهما حرف الكاف كنقطة توازن في الكتلة. هكذا يتقابل خط الثلث الذي يمثّل القوة في التصميم والبناء، مع الخط الديواني الجلي والانسيابي. نقطة التناقض والتضاد هي جوهر انشغالات الساعي في عمارة لوحته: فضاء هندسي صارم من جهة، وفضاءات رحبة من جهة أخرى، تنطوي على طبقات كرونولوجية تمزج لون التراب الأول بإيقاعات الحياة المعاصرة والبعد الأسطوري للأمكنة والعناصر التي يراودها في تجواله الخطي والمعرفي بوصفها مذكرات شخصية. لعل الإغواء هنا في مراودة عبارة تتجاوز اهتمامات الخطاطين الآخرين، تلك التي تتأمل المأثورات والحكم والأمثال، إلى معجم آخر يستدعي تصورات مغايرة: «شمسي الخريفيّة» لبودلير أو «طريق النحل» لفيروز. فخارج مسارات المعنى، سنتوقف أمام البعد التشكيلي الخالص للوحة وإيحاءاتها البصرية وليونتها الخطّية. لوحة «المركب النشوان» تختزن شحنة انفعالية مدهشة، تستحضر العبور الخاطف لنصوص رامبو والاستبطانات اللونية والزخرفية لإيقاع القصيدة ذاتها. وهو ما نلحظه في «من وحي المتنبي». إذ نجد إيقاعاً موسيقياً شرقيّاً، كأن اللوحتين في حوارية بين الشرق والغرب.
حداثة الساعي لا تتوقف عند خياراته الشعرية، بل تتجاوزها إلى مفردات مثل «وجد» و«جيم»، لتستيقظ فيها روح صوفية ممتزجة بإشارات مفارقة للأصل. فالجيم هنا تذهب إلى نبرة احتفالية تحيط بها أحرف أخرى تحيل إلى تجاور المعاني واختلافها في آنٍ، لنقل إنها «مولوية حروفية». أما «ألف ليلة وليلة» فتتحول جداريةً بأبواب مفتوحة على الحلم، تكاد تنطق بسلالة من المعاني الحسيّة واللونية. البعد الموسيقي حاضر بقوة إذاً، في أعمال هذا الحروفي البارز، حتى إنّه خاض خلال المعرض تجربة حيّة مع عازف العود خالد جرماني. وإذا بالقماشة البيضاء تتحول إلى فضاء لوني وتجريدي في حوار خلاّق بين الحرف والنغم وبين المقام الموسيقي والمقام الخطي، وذلك بفتح الحدود بينهما إلى آخر الاحتمالات النغميّة والبصرية. وقبل سنتين، التقى الخطاط والموسيقي في مشروع مشابه كانت حصيلته ألبوم «مساحة تقاطع». في أعمال الساعي، يذهب الحرف إلى بوصلة أخرى لا تتّكئ على المعنى، بل تخلق فضاءها التركيبي الخاص الذي يعبّر عن هوية ذهنية، وتصورات روحية، تهتك نظام العلامات المألوف. يبني اللوحة على إيقاعات هارمونية تقترب في تناغمها من مقام الرست الصارم حيناً، ومقام النهوند الانسيابي أحياناً.
حتى 4 شباط (فبراير) المقبل ـــــ «المركز الثقافي الفرنسي» (دمشق) ــ 00963112316181www.ccf-damas.org

مَن يذكر محمد بدوي الديراني؟عاش بدوي بالقرب من الجامع الأموي، وتتلمذ في صباه على يد الخطّاط التركي يوسف رسا، الذي جاء إلى دمشق بقصد تجديد كتابات الجامع الأموي، ثم اطّلع على أعمال الخطاطين الإيرانيين مثل صاحب قلم ومشكين قلم. وفي محترفه بالقرب من الجامع الأموي، راح يجرّب مزج أكثر من خط في لوحة واحدة، ولعل من يتفرّج على لوحاته، إضافةً إلى اللوحات الإعلانية للأطباء والمحامين في دمشق الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم التي تحمل توقيعه، سيلحظ خصوصية خطوط هذا المعلّم وليونتها وجمالها.
ترك بدوي بعد رحيله نحو مئة لوحة تُعتبر اليوم من كنوز الخط العربي، لعل أبرزها تلك اللوحة التي استعمل فيها خمسين نوعاً من الكتابة، وذلك بمزج أبجديات تاريخية من مختلف أنحاء العالم. في هذه اللوحة اعتمد التركيب المتناظر، واستخدم الخط الكوفي كإطار للوحة باعتماده الإرث الموجود على العمائر والمساجد التاريخية. في لوحاته المكتوبة بالخط الفارسي يزاوج بدوي بين الأسلوب الإيراني الذي يجمع الانسيابية والزخرفة الجمالية، والأسلوب التركي الذي يمتاز بالحدة والاستقرار على السطر.
المجلّد الذي يضم أعماله فرصة استثنائية لاكتشاف الكنوز المخبوءة التي أورثها الخطاط الراحل لأبنائه، إضافة إلى بعض أعماله الموزّعة بين أكثر من بلد ومسجد.
بدوي الذي ينشد الكمال في كل لوحة يخطّها، كان يعيد كتابة اللوحة أكثر من مرة، إلى أن يحس بالرضى التام، ثم يضع توقيعه وتاريخ كتابة اللوحة.
يعتني بدوي بتدوير الحروف التي لها كؤوس على مستوى أفقي، وذلك لإبراز براعته في الخط، وهكذا سيختار عبارات تتكرر حروفها مثل «الحق يعلو ولا يعلى عليه» أو «يا غالباً غير مغلوب». هل اندثرت مهنة الخطاطين الكلاسيكيين الكبار، بعد رحيل بدوي في الشام وهاشم البغدادي في العراق؟ لعلّ الإجابة تكمن في انتشار خطوط النيون الجاهزة التي غزت واجهات المتاجر بكل قبحها
البصري.