مرور قرنٍ على حدثٍ ما أو ولادة شخصية عامة، له أهميته في المجتمع، تارةً لدوافع نبيلة وطوراً لأسباب تجارية وأحياناً الأمرَيْن معاً بشكل منفصل. في الموسيقى إنها مئوية ولادة رجل عظيم اسمه سفياتوسلاف ريختر (1915 - 1997). من جهتنا، هدفنا أولاً، التعريف (أو التذكير) بشخصيات من حقّ الناس ومن المفيد الاطّلاع عليها في بلد لا يؤدي إعلامه هذا الدور ومناهجه التربوية لا تلحظ هذا الواجب. وثانياً، إحياء سيرة إنسانٍ شريف وموهوب، مارس مهنته بضمير وحبّ، وأخذ خيار الشقاء في سبيل الآخر.

وُلِد ريختر في روسيا الصغرى (جزء من أوكرانيا اليوم) وعاش في موسكو. أصوله ألمانية، صحيح، لكنه يُعتَبَر أكبر رمز في المدرسة الروسية للعزف الكلاسيكي على البيانو، إلى جانب فلاديمير هوروفيتز طبعاً… ويتربع على العرش وحده متى حدّدنا أكثر وقلنا المدرسة السوفياتية. لم يترك ريختر روسيا بعد ثورة تشرين. في الواقع، ميزة أنه روسي من أصل ألماني، قد تكون أسهمت في جعله يتفوّق على غيره، فأهم مدرستين في تاريخ البيانو هما الجرمانية والروسية. وعموماً ينجح الروس في أداء الريبرتوار الروسي وتوابعه. أما الجرمانيون فيبرعون في ريبرتوارهم… ريختر حقق إنجازاتٍ في المجالين معاً وأكثر، من باخ وهايدن وبيتهوفن مروراً بشوبان وشوبرت وشومان وصولاً إلى الروس الكبار من تشايكوفسكي إلى رخمانينوف فصديقه بروكوفييف وغيرهم.
لم تكن بدايات ريختر عادية. والده كان عازف بيانو محترفاً، ووالدته الروسية كانت تلميذة والده.
حقق إنجازات
كبيرة في المدرستين الجرمانية والروسية
وعلى أيديهما، تلقى دروسه الأولى. كان يكره المدرسة، ويذكر أن إحدى المعلمات قالت مرةً: «كلكم كسولون… لكن السيد ريختر تفوح منه رائحة الكسل». والسبب أنه لا يطيق الرضوخ لمنهج محدّد. انسحب ذلك على البيانو، إذ لم يتبع الخطوات المتعارف عليها في التعلُّم. ولمّا أراد دخول صفّ نُويْهاوز (أحد كبار المعلّمين الروس في هذا المجال) في الكونسرفتوار، سأله الأخير: «ما هو المستوى الذي بلغته في المنهج؟». ردّ ريختر: «لم أتبع أي منهج». امتعض المعلِّم لكنه أعطاه فرصة: «حسناً، أسمِعْنا شيئاً». شرع الفتى في العزف، فهمس نُويْهاوز لطلابه: «أعتقد أننا أمام عبقريّ»… وقَبِله في صفّه على الفور! بعد ذلك، أصبح ريختر من أعز أصدقاء أستاذه، حتى راح يبيت عنده. وتروي شريكة ريختر السوبرانو الروسية نينا دورلياك، أنه كان ينام عند نويهاوز تحت البيانو، إذ لم يكن يأبه بوسائل الراحة والرفاهية.
كان لريختر ذاكرة «لا تحتمل»، كما يصف نفسه ممازحاً، وبالأخص في ما يتعلق بالموسيقى وأسماء الأشخاص، لا الأرقام. مقطوعات موسيقية طويلة يستطيع تسجيلها في ذاكرته بسرعة قياسية، وهذا أمرٌ مهمٌ لعازفي البيانو. هكذا بدأ اسمه ينتشر في روسيا ثم في الدول الاشتراكية التي كان يقدّم فيها حفلات أينما تسهّل الأمر: في القرى الصغيرة وفي المدارس وكذلك في المعامل! كان ريختر مميزاً. مظهره الخارجي أقرب إلى عمال المصانع، وعلاقته بمهنته ليست مقيَّدة بقواعد أو بسلوك اجتماعي تفرضه الصورة النمطية لموسيقي بمستواه. وللعيش في ظل نظام اشتراكي يدٌ في تكوين هذه الملامح من شخصية ريختر بالتأكيد، رغم مآخذه على السلطة السوفياتية وبعض رموزها وملاحظاته على جوانب من العقيدة الشيوعية (من دون حقد وشتائم). بدليل أنه لم «يهُجّ» إلى أميركا كما فعل كثيرون، بل ظلّ يتحجج بالمرض كي لا يذهب إلى البلد الذي ــ عندما قَبِل أخيراً بزيارته عام 1960 ـ تعلّق أكثر بـ «بيته» وعلّق قائلاً: «زرت أميركا مرغماً، واكتأبت بعدها». أضف إلى ذلك أنه التقى في بلاد العم سام موسيقيين كباراً حاولوا عبثاً إقناعه بعدم العودة إلى «هناك». بالمناسبة، قدّم ريختر خلال زيارته الأولى هذه ستّ أمسيات في «كارنغي هول»، يقول عنها إنها كانت مليئة بالأخطاء. أمّا الصحافة الأميركية، فكتبت معلقات من المدائح التي رأى فيها العازف السوفياتي جهلاً وعدم فهم لما قام به! مقابل كلام الصحافة الأميركية الذي ينمّ عن جهل أو خبث، شهادةٌ صائبة وصادقة كالعادة من زميله، الأسطورة غلان غولد: «هناك نوعان من الموسيقيين: من يسعى إلى خلق علاقة بين أدائه والجمهور. ومن يساعد الجمهور على خلق علاقة مع الموسيقى، متخطياً مسألة الأداء عبر إيهام المستمع بوجود علاقة مباشرة بين المؤدي والنوتة الموسيقية مباشرةً، من دون المرور بالآلة… لا أجد أفضل من ريختر كمثال على الفئة الثانية».
أخيراً، الرجل الذي حمل ألقاباً مثل «عبقري البيانو» و«إله البيانو الروسي» الذي عزف في وداع ستالين وجنازة هيندنبورغ (زعيم ألمانيا قبل هتلر) كان هنا، في بعلبك، خلال مهرجانات صيف 1969.