«الهرم الذهبي» لفيلم متوسّط والسيناريو لمشهراوي ورشوانالقاهرة ــــ محمد خير
لدى اختيار فيلم «العودة إلى حنصلة» للعرض في افتتاح «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» الـ 32، امتعض كثيرون معتبرين بأنّ المستوى «المتوسط» للشريط الإسباني لا يليق بافتتاح المهرجان العريق... يمكن إذاً تصوّر شعور الخيبة لدى أولئك، بعد اختيار الفيلم نفسه للفوز بالجائزة الكبرى (الهرم الذهبي) فضلاً عن جائزة «لجنة تحكيم اتحاد الصحافة السينمائية». هي خيبة ليس مبعثها حصول الفيلم على ما لا يستحقّه، أو خسارة أفلام أخرى استحقت الفوز، وإنما الشعور العام بأنّ ذلك المستوى المتوسط ـــ في أفضل تقدير ـــ قد أصبح سمة المهرجان عموماً وأن تدهور مستوى الأفلام المتنافسة في المسابقة الدولية لا ينفصل عن تدهور المستوى التنظيمي، بل لعله نتيجتها المباشرة. إذ لا تنتظم سوى الأخطاء وتتكرر عاماً بعد عام، وليس من دليل أقوى مما يخصّ الفيلم الفائز نفسه: إذ تناقلت الوكالات والتقارير والنشرات اسم المخرج شيويز جوتيريز، فإذا بالجميع يكتشف بأنّها «المخرجة» لا المخرج! وأنّ الفيلم قد عرض قبلاً في مهرجانين، هما «تورنتو» في كندا، وValladolid في إسبانيا.
مع ذلك، فالفيلم الفائز لم يكن من الأفلام «الصارخة» بقضيتها: حبكة بسيطة، أقرب إلى «رحلة في عالم مجهول» منها إلى قضية «الهجرة غير الشرعية»، وإن كانت تتّكئ على الأخيرة من دون أن تدينها ولا تبرّرها. هي رحلة مارتن (خوسيه غارسيا بيريز) إلى بلدة ليلى (فرح حامد) المغربية. الإسباني والمغربية التقيا في ظروف غير اعتيادية، فالشاب متعهّد جنازات يتكفّل بإعادة جثامين المهاجرين العرب الغرقى إلى أهاليهم، ويكسب رزقه من ذلك، بينما هي المهاجرة التي أرادت لشقيقها أن يحصل على نفس «فرصتها»... فإذا به يفقد حياته في الطريق إليها ويغرق ككثيرين من رفاقه. لكل من مارتن وليلى إذاً مصلحة في العودة بجثة الشقيق الشاب إلى أهله في حنصلة. هكذا، يسافران معاً إلى القرية الجنوبية العربية الفقيرة، حيث الموت والأحلام وجهان لعملة واحدة. وخلال الرحلة ـــ كما للمشاهد أن يتوقّع ـــ يتغيّر الإسباني بالمعرفة، يرى في تلك «الجثث» ما هو أكثر من «بيزنس»، يرى عالماً آخر لا تبدو فيه الهجرة «جريمة» إلى هذا الحدالعودة إلى حنصلة» لم تكن العودة الوحيدة، هناك «عودة» أخرى في الفيلم المصري «بصرة» الذي حاز جائزة السيناريو في القسم العربي (مناصفة مع فيلم رشيد مشهراوي «عيد ميلاد ليلى»). جائزة «بصرة» لم تُسعد مؤلف الفيلم ــــ وهو ذاته المخرج ــــ أحمد رشوان فحسب، بل أسعدت وسط السينما المستقلة الذي أتى منه رشوان، أحد أبرز الأسماء في عالم الديجيتال والبرامج الوثائقية والأفلام القصيرة وغيرها من مفردات السينما غير التجارية في مصر. فيلمه الفائز هو أوّل أفلامه الروائية الطويلة، أنتجه بنفسه بإمكانات محدودة، صوّره أولاً بتقنية الديجيتال قبل أن ينقله إلى شريط 35 ملّم. وقد فاز قبل شهرين بجائزة التصوير في «مهرجان فالنسيا السينمائي»، قبل أن يعود ليحقق الجائزة المصرية الوحيدة في «مهرجان القاهرة 32». هذا عن «الجائزة»، فماذا عن «العودة»؟
يعود طارق (باسم سمرة) من باريس قبل أن يكمل دراسة القانون هناك، ذلك أنّه اكتشف ـــ متأخراً ـــ أنّه لا يحبّ القانون، وأنه لا يعيش أو يعمل ما يريده ويحبّه. هكذا يترك كل شيء عائداً إلى مصر، ليتعلّم ويمارس المجال الوحيد الذي يحبّه فعلاً، وهو التصوير الفوتوغرافي. بعد طلاق سريع من زوجته الأولى، يلتقي نهلة (يارا جبران) التي التقطت له صورة في إحدى الحفلات. إذ تعمل بدورها مصوّرة فوتوغرافية، تنطبع صورة كل منهما في نيغاتيف الآخر، يقتربان ويكتشف أنّها أيضاً أنهت لتوّها تجربة زواج مؤلمة. إنّها «بصرة» إذاً، فكلمة بصرة في لغة لاعبي الورق، هي أن يمتلك اللاعبان ورقتين متشابهتين في نفس الدور، كذلك طارق ونهلة التقيا في لحظة تطابق إنساني كامل. وإذ تدور أحداث الفيلم خلال فترة غزو العراق حتى سقوط بغداد، فإن كلمة «بصرة» تكتسب معانيَ أخرى: حفنة من أصدقاء، وأيام رتيبة تتخلّلها الكآبة والحب والجنس وفاجعة موت. لكن حياةً لا تزال موجودة تحت كل هذا الركام تدفع الجميع إلى المقاومة، وتدعوهم إلى التعرّف على أنفسهم أكثر. وعلى رغم جودة التصوير والتمثيل بصفة عامة، إلا أنّ «الورق» يبقى مستحقاً لجائزته، إذ نجح في إيصال معاني تسرّبت إلى المشاهد تدريجاً. أمّا الإيقاع ـــ وإن بدا بطيئاً في البداية ـــ إلا أنّه كان مناسباً في الإجمال، متّسقاً مع نعومة الحالة السينمائية.
جائزة «بصرة» المستحقّة ربما كانت السبب في ما اعتبره البعض مفاجأةً وهو خروج فيلم «خلطة فوزية» خالي الوفاض. الشريط الذي يعود به المخرج مجدي أحمد علي إلى السينما بعد غياب، حاز جائزة التمثيل لبطلته إلهام شاهين في «مهرجان أبو ظبي». إلا أنّ هذه الجائزة ليست متوافرة ضمن جوائز القسم العربي للمهرجان، لتذهب جائزة الفيلم العربي إلى «مسخرة» للجزائري إلياس سالم (أي ليس إلى ليث قاسم كما أوردت الوكالات!). وهو مخرج الفيلم وبطله واشترك في كتابته مع ناتالي سوجون. وتتبدى المفارقة أنّ الفيلمين المصري والجزائري، يشتركان في حبكة تتمحور حول امرأة، وجو عام أقرب إلى الفانتازيا. إذ إنّ فوزية (إلهام شاهين) في الفيلم المصري، هي المرأة التي تدير أحوالها بصورة تبدو غرائبية في مجتمع ذكوري: هي الزوجة التي تتابَع عليها خمسة أزواج مختلفين، يكادون يشكّلون ـــ مع أولادهم ـــ إمبراطورية عائليّة تتحكّم فيها فوزية، بقلب مرح ومنفتح على الحياة ونوع خاص جداً من «الأصول» التي تحفظ حقوق الراحلين ومكانتهم في الذاكرة. أفراحٌ وأحزان وبنية بسيطة تذكّر بصيغة «يا دنيا يا غرامي» الفيلم الأول لنفس المخرج. وإن كان «يا دنيا» من تأليف محمد حلمي هلال، فإنّ «فوزية» هو أولى تجارب الكاتبة هناء عطية. في المقابل، فإنّ غرائبيّة «مسخرة» تنبع من سياق مختلف، رغم أنّنا ما زلنا في إطار زواج غير تقليدي. إذ إنّ منير (إلياس سالم) لديه مشكلة خطيرة، فأخته ريم (سارة رفيق) تعاني من مرض غريب، يجعلها تقع فريسة النعاس في أي وقت وأي مكان، ما أثار سخرية أهل القرية وأبعد عنها أي زوج/ عريس محتمل. فلا يكون أمام منير سوى أن يدّعي كذباً بأنّ رجلاً ثرياً تقدّم لشقيقته كي يتزوّجها، ويبدأ ـــ لتجنّب التكذيب ـــ بالاستعداد للعرس الكبير الذي يفتقر إلى العريس. المفارقات الذكية والخفيفة الظل التي يتميّز بها الفيلم، منحته جائزة أفضل فيلم عربي بعدما حصد جائزة أفضل فيلم في «قرطاج»، ثم تجاوز التصفيات المبدئية لمسابقة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، صاعداً إلى المرحلة الثانية مع 66 فيلماً آخر.