المهرجان الذي تحتضنه بيروت حاليّاً، بعد تونس وعمّان، يمثّل جسراً حقيقياً بين العالم العربي وأوروبا الثقافيّة، وأرضيّة للتفاعل والحوار
بيار أبي صعب
إذا كان لا بدّ من مثال إيجابي عن التعاون والتفاعل النموذجي بين ضفّتي المتوسّط، على خلفيّة المشروع الأوروبي، فهو بلا شكّ «مهرجان السينما الأوروبيّة» الذي يحتفل حاليّاً في بيروت بعيده الخامس عشر، والذي يشمل عدداً من العواصم العربيّة مشرقاّ ومغرباً، من عمّان إلى تونس. التوسّع الأوروبي يبدو غالباً، منظوراً إليه من هذا الجزء من العالم، مشروعاً اقتصادياً تحدده السوق، ويقام على حساب الجماعات الأضعف، والطبقات الأدنى، والخصوصيّات الثقافيّة والديموقراطيات الوطنيّة، وحقوق الشعوب التي تحميها الدولة الوطنيّة... فيما تهددها أحكام السوق. بالنسبة إلى العرب وأهل الجنوب إجمالاً، التوسع الأوروبي يبدو أيضاً كأنّه يقام على حسابهم، لصالح دول أوروبا الشرقيّة... فيما السؤال المحوري، مصدر كل الأزمات والسياسات الخارجيّة والحروب والمصالح الاستراتيجيّة، والمخاطر الخارجيّة على أوروبا من الهجرة السريّة إلى الإرهاب (مروراً بمشاكل اندماج المواطنين المتحدرين من الجاليات المهاجرة، ومعظمها مرتبط بالإسلام ديناً أو بالعربيّة حضارة)، ذلك السؤال ما زال يدور حول العلاقة الشائكة إيّاها بين الشمال والجنوب.
«مهرجان السينما الأوروبيّة» هو أحد الجسور الحقيقيّة إذاً، بين العالم العربي وأوروبا الأخرى: أوروبا الثقافيّة التي تشكّل لكثيرين على هذه الضفّة أفقاً تنويريّاً، ومرجعاً جمالياً وفكريّاً، وأرضيّة للتفاعل والحوار ومعرفة الآخر ومد خيوط الشراكة معه. كل ذلك يذكّر به، بشكل أو بآخر، باتريك لوران رئيس بعثة المفوّضية الأوروبيّة في بيروت، إذ يتحدّث عن «الحوار العابر للثقافات» في تقديمه لبرنامج هذه الدورة من المهرجان التي تستمرّ حتّى السابع من كانون الأوّل (ديسمبر) في صالة أمبير ـــ صوفيل (الأشرفيّة). حين انطلق المهرجان في بيروت، كان الموعد السينمائي الوحيد في البلد الخارج من الحرب الأهليّة، وها هي بيروت تضجّ بالمهرجانات والتظاهرات الخاصة بالفنّ السابع، وبعضها بدعم أوروبي كما يذكّر لوران مشيراً إلى برنامج Euromed Audiovisuel الذي وصل جزؤه الثاني إلى نهايته، وقد ساهم في تقديم الدعم لأعمال لبنانيّة كثيرة بينها «سكر بنات» (نادين لبكي) و«فلافل» (ميشال كمّون) و«تحت القصف» (فيليب عرقتنجي) و«يوم آخر» (جريج/ حاحي ـــ توما).
والمهرجان الذي يشكّل متنفساً ورئة حقيقيّة لجمهور من هواة السينما، يتخبّط طوال العام في صحراء قاحلة يفرضها التوزيع التجاري، وندرة المبادرات الموازية، يأتي برنامجه هذا العام حافلاً بالمواعيد المثيرة مع أعمال مميّزة أنتجت في أوروبا خلال السنوات الأخيرة. علماً أن مشاكل الهجرة، والنظرة إلى الآخر، والتعامل مع الإسلام من الأسئلة الملحّة التي تتكرّر في أفلام عدّة، يمكن أن نجمعها تجاوزاً تحت عنوان عريض واحد: عن عدوّ حميم اسمه الإسلام. هذا الموضوع يتطرّق إليه فيلم «عين حمراء واحدة» للسويدي دنيال فالنتين (4/12، س 8)، و«إنه عالم حرّ» للمعلّم البريطاني كين لوتش (4/12، س 5 ونصف)... إضافة إلى فيلمين من هولندا، الأوّل لناديا نيتشوستان بعنوان «دنيا وديزي» (7/ 12، س 10 ونصف)، والثاني لألبرت تير هيردت بعنوان KICKS. والقاسم المشترك بين الشريطين هو ممثّلة هولنديّة لافتة، مغربيّة الأصل، اسمها مريم حسّوني.
ألبرت تير هيردت قدّم من «كيكس» عملاً يتحلّى بالجرأة والعمق، مسلّطاً نظرة نقديّة ومتعاطفة في آن مع المهاجرين العرب إلى هولندا، الموزّعين بين تقاليد محافظة ـــ لكي لا نقول رجعيّة ـــ وقهر سياسي واجتماعي، وغربة ثقافيّة، ونظرة سلبيّة إليهم، تلامس العنصريّة أحياناً. هذا العجز عن فهم الآخر في الاتجاهين، والنظرة الاختزاليّة والكليشيهات والأفكار المسبقة والخوف المزدوج، ورحلة الاندماج الشاقة... كلّها من القضايا التي يثيرها مخرج «شوف شوف حبيبي» من خلال حبكة ميلودراميّة متماسكة ومشوّقة تحرّكها شخصيّات نموذجيّة عند الشرخ الفاصل بين واقعين وهويّتين داخل بلد واحد. قدّم ألبرت فيلمه شخصياً ليلة السبت في الأشرفيّة (دعا المهرجان أكثر من مخرج للقاء الجمهور)، وتوقّف بحذر عند مفهوم «الاندماج» متسائلاً: هل يعني هذا الاندماج أن نفرض على الآخر قيمنا مقابل قبوله كواحد منّا؟ وتم استحضار المخرج الهولندي الآخر تيو فان غوغ الذي اغتاله أحد المهاجرين قبل سنوات، وكان قد عرف بنظرته السلبيّة إلى الإسلام، وبعنصريّته وأحكامه المسبقة... ما يضعه تماماً في الموقع النقيض لمخرج «كيكس»، بل إن الراحل فان غوغ يمكن أن يشكّل نموذجاً لإحدى الشخصيّات العنصريّة التي نجدها في فيلم ألبرت تير هيردت.
قائمة الأفلام المهمّة طويلة في المهرجان الذي افتتح بفيلم أرنو ديلبيشين «قصّة من قصص الميلاد» (يعاد في 6/12، س7 ونصف)، ويختتم بفيلم سمير حبشي «دخان بلا نار» الذي سبقته رياح سجاليّة حادة (الأحد 7/ 12، س 7 ونصف)... ويحيي ورشة عمل على السيناريو (إشراف) ويعرض أفلام الطلاب في معاهد الفنون (وتمتد بعض عروضه إلى عاصمة لبنان الثانية، في سينما «سيتي كومبليكس»، طرابلس). بشكل عابر نذكر الدنماركي لارس فون تراير «رئيس الجميع» (2/12، س 8)، الألمانيّة دوريس دوري في «زهر الكرز» (3/ 12، س 10 ونصف)، الايطالي جياني ساناسي «وداعاً ستيفانو» (3/12، س 5 ونصف)، البلجيكيّة ماريون هانسيل «لو أن الريح ترفع الرمل» (4/ 12، س 8)، الفرنسي أندريه تيشينيه «الشهود» (هذا المساء، س 8 ___ 2/ 12، س 10 ونصف).
يسجّل للمهرجان أسعار بطاقاته الزهيدة (3500 ل ل)، وفي اعتقادنا أن حملة واسعة في الجامعات كانت لتضاعف حجم الجمهور. ولا بد من توجيه تحيّة خاصة إلى بشرى شاهين، السيّدة الخفيّة التي تحرّك الخيوط وتسهر على إنجاح البرمجة في الكواليس، بعدما عملت أسابع طويلة على تحضيرها، بين ملفّين شائكين من ملفات المفوّضيّة الأوروبيّة التي لا تمتّ إلى الثقافة بصلة. كنا نتمنّى على إدارة المهرجان أن تغني البرمجة بأعمال عربيّة أخرى استفادت من الإنتاج المشترك مع أوروبا، كشريط «سيني شيتا» للتونسي ابراهيم اللطيف على سبيل المثال ونأمل أن يأتي يوم تتسع فيه السوق العربيّة للأفلام الأوروبيّة، بحيث يصبح بالإمكان رصد ميزانيّة في المفوضيّة لطبع ترجمة عربيّة على النسخ المعروضة... عندها سنقول إن المهرجان حقق نجاحاً إضافيّاً بالوصول إلى مختلف الشرائح الاجتماعيّة.


حتى 7 كانون الأول (ديسمبر) الحالي ـ سينما «صوفيل» ـ للإستعلام: 01/204080