حوار نظري مشرق/ مغرب في غياب الكتّاب المعنيينسناء الخوري
حلّ ستيفان تودوروف وجيرار جونيت ضيفي شرف على «المؤتمر الأول للرواية العربيّة بين المشرق والمغرب» من حيث لا يدريان... في وقت غاب فيه معظم ضيوف الشرف الباقين من أمثال: إدوار الخراط، الياس خوري، الطاهر وطار، إبراهيم الكوني، أحلام مستغانمي، جبور دويهي، حسن داوود... إلا أنّ المنظّمين ارتأوا إبقاء أسماء هؤلاء على برنامج المؤتمر الذي أقيم أخيراً في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة (الفرع الأول).
بالطبع لا يمكن أي مؤتمر نقدي حول الرواية أن يتخطّى الأعمال التي قام بها هذان المنظّران في مجال الرواية، وخصوصاً أنّهما وضعا قواعد عالميّة لناحية تشريح القصّة والسرد والخطاب وصوت الراوي، لكنّ المداخلات المتنوّعة في المؤتمر التي ارتكز معظمها على تطبيقات لأعمالهما، كشفت عن وجود أزمة حقيقيّة في ترجمة المصطلحات فحدث سوء فهم خلال بعض المداخلات جرّاء اختلاف تسمية الباحثين للمفهوم نفسهأمّا تكثيف تحليل الرواية العربية من مختلف الاتجاهات والنظريّات في يومين وسبع جلسات، فقد كشف عن اتجاهات النقد الأكاديمي العربيّة للرواية، وخصوصاً أنّ الباحثين المشاركين في المؤتمر جميعهم من جامعات عربيّة مشرقيّة ومغربيّة (الأردن، تونس، الجزائر، سوريا، العراق، لبنان، مصر، المغرب) وقيّمون حالياً على تشريح النظريات النقديّة من خلال تدريسها في مقرّرات النقد التي تخصّصها كليات الآداب لطلابها.
ركّز بعض المداخلات على النقد النحوي والأسلوبي فيما اختار بعض الباحثين النقد الأدبي على ضوء علم الاجتماع من خلال نظريات لوسيان غولدمان ورولان بارت. فإذا بالمشاركين الذين اتبعوا المنهج الأخير ينجحون في تقديم مداخلات غنيّة مزجت بين الحيّز الإبداعي الجمالي وبين انعكاسات الأزمات الاجتماعية والسياسيّة في المغرب والمشرق على الكتابة الروائيّة. هذه الانعكاسات تنوّعت بين الثورة الجزائريّة وتطوّر الرواية المغربيّة في مراحل تأسيسية وواقعية تجريبية تبعاً للتطورات السياسية والصراعات الطبقيّة. وقد تجلّت التردّدات السياسيّة للواقع العربي في الرؤية الساخرة التي قدّمها الروائي المصري صنع الله إبراهيم في روايته «اللجنة» (1981). في مقابل هذه الدراسات العميقة الشيّقة، ردد بعضهم شعار “الرواية هي مرآة المجتمع”، رغم تخطّي المنظرين لهذا الكليشيه منذ زمن، والتفاتهم إلى تفكيك الأساليب السردية وتحليل التركيبات النصيّة على ضوء الإيديولوجيات السائدة من جهة، وتحطيم الراوي لكلّ الرموز والإيديولوجيّات من جهة أخرى.
وقد دار النقاش حول عناوين مختلفة كمحور«الرواية المشرقية بعيون مغربية»، من خلال نقد باحثين مغاربة للمحات من أعمال إدوار خرّاط، حيدر حيدر، وصنع الله إبراهيم، ومحور «العيون المغربية تلاحق مشارقة» إذ تابع مغاربة تجربة عزمي بشارة في «الحجز» وحلّلوا منهج محمد البساطي.
وجاءت بعض المداخلات عامّة. إذ تناولت السرد في الرواية العربية والتوظيف السردي للمحكي فيها، كما تناول بعضها دلالة الزمن في النص الروائي من خلال نماذج الليبي إبراهيم الكوني، والجزائرية أحلام مستغانمي وتحوّلات الخطاب الروائي المغربي ونظرة ما بعد الاستعمار ومغامرة السرد في الرواية المغربية وإشكالية التعبير فيها.
هذه المحاور النقديّة الغنيّة كانت نتيجة المؤتمر الذي هدف إلى تجاوز أزمة النشر التي تخلق أزمة تواصل بين الإنتاجات الروائية المشرقية والمغربية، كما يقول منسّق المؤتمر أحمد بو ملحم. في المقابل، تساءل بعضهم عن سبب تفنيد الرواية العربيّة بين مشرق ومغرب، لكنّ مهى خير بك وهي واحدة من المنظمين الذين بدأوا الإعداد لهذا المؤتمر قبل سنة، لفتت إلى أنّ «لكلّ مجتمع خصوصياته من حيث البنى النفسية والجغرافيّة. ولا بد لهذه العوامل من التأثير في شخصية الروائي الذي يلتقط صوره من الواقع ويلقّحها في ذهنه».
إضافةً إلى هذه الإشكاليات النقديّة، كانت حداثة الرواية على الإنتاج الأدبي العربي مطروحة بقوّة. فالرواية ليست شكلاً من أشكال التعبير العربيّة الأصيلة (لا يبلغ عمر الرواية المغربيّة مثلاً أكثر من نصف قرن)، لهذا دعا بعض المشاركين إلى استلهام أشكال التراث العربي كالخبر، والتي راجت شفاهياً قبل أن ينتقل العرب إلى تدوينها.
في خضم هذا التنوّع النقدي، لفت محمد المعزوز الناقد والروائي والمؤلف المسرحي المغربي إلى «أنّ استنساخ النظريات بطريقة سلبية يبعدنا عن السؤال الحقيقي، وهو ما الذي يمكن أن نضيفه بمقاربتنا النقديّة للرواية العربيّة». وتساءل المعزوز عن موت النقد بعدما طلّق الأوروبيون النظريّات التقليديّة، داعياً إلى «قراءة عاشقة» للنص الأدبي بدل تقويله أكثر مما يقول. من هنا، دعا المعزوز إلى ضرورة العودة إلى كتابات العرب القدماء، أو الغوص أكثر في تقديم قراءات نقديّة ترتكز على الانتروبولوجيا والسياسة. أمّا الروائي ــــ حسب المعزوز ــــ فيجب أن يلتقط تفاصيل الواقع من الناحية الانتروبولوجية التي تمثّل الثابت الثقافي في الهوية العربية، ليكتب من خلال هذه العدّة التي تكوّن له تراكماً علمياً. إذ إنّ الابتعاد عن هذه الروحيّة في الكتابة يجعل الرواية العربية جافة على مستوى الصورة، وهذا ما يخلق أزمة خيال حقيقية».
التنوّع البحثي في المؤتمر قدّم مادّة دسمة إلى الطلاّب، لكنّ طموح كليّة الآداب في جعله ملتقىً للباحثين والأدباء من المشرق والمغرب العربي واجه ثُغراً تنظيمية، كأن تُترك أسماء الأدباء على برنامج المؤتمر رغم أنّهم لم يُدعوا للمشاركة، ما خلق إرباكاً لدى الصحافيّين. فقد خصّصت جلسة تحت عنوان «عيون المشارقة تتعلق بالطاهر وطار» الذي اختير في نهاية المؤتمر الروائي العربي الأول بين المشرق والمغرب لهذا العام، لكنّ صاحب «عرس بغل» صرّح لصحيفة جزائريّة بأنّه استغرب هذا الأمر، وخصوصاً أنّه لم يُدعَ إلى المؤتمر.
وضع الرواية العربية تحت المجهر، بين مشرق ومغرب كان الهدف إذاً، لكن ما اتّضح من خلال النقاش أنّ البحث الأكاديمي ونقد الرواية هو ما يجب وضعه تحت المجهر.

«الزّمن هو الذي يصنع النّصّ»ومن بين الروائيين الذين أدلوا بشهاداتهم في المؤتمر، الروائي السوري نبيل سليمان بمداخلة «تشكيل روائي لبيروت»تحدّث فيها عن صدمة خليل بطل كتابه «هزائم مبكرة 1985» القادم من الريف السوري إلى بيروت وعن انبهاره بالسينما والنساء «شبه العاريات» والأجواء السياسيّة السائدة مطلع الستينيات، وصعود التيارات القوميّة في تلك المرحلة.
العلاقة بالمدينة وبالسياسة كانت حاضرةً في مداخلة علويّة صبح التي سألت نفسها لماذا لم تستطع أن تكتب بمعزل عن الحرب اللبنانيّة؟
وتحدّثت صاحبة «دنيا» عن أنّ «الكتابة شرطها الحريّة والقلب المفتوح على الأسئلة، والانحياز إلى حرية الفن. بعد كل المداخلات التي سمعها المؤتمرون، جاءت شهادة رشيد الضعيف لتطرح أسئلة جديدة. وقف «صاحب تصطفل ميريل ستريب» حائراً أمام التأويلات المختلفة للنصّ الأدبي، وسأل «ما علاقتي ككاتب بما أكتب؟ من قال إنّ الكاتب هو سيّد الكتابة وليس عميلها؟». وفي مقاربة لإفلات النصّ من صاحبه، قارن الضعيف الروائي بعلماء الثورة الصناعيّة، فمن منهم كان يظنّ أنّ الاكتشافات التي ابتكروها في مختبراتهم ستجرّ على العالم كلّ هذا الدمار والتلوّث؟
انطلاقاً من عجز المبدعين والمفكرين أمام التاريخ «الذي يبني نفسه عبرنا»، أعلن الضعيف عجز الكاتب أيضاً أمام الزمن، انطلاقاً من تجربته. ففي حالة ديوانه الأوّل «حيث حلّ السيف على الصيف» (1979)، والذي ترجمه وكتب مقدمته بالفرنسيّة المفكّر جمال الدين بن شيخ، فوجئ عندما تحدّث بن شيخ عن السخرية في ديوانه في وقت كتبه في عزّ الحرب والدمار والخيبة وانسداد الأفق. وأخذ يسأل نفسه: «هل أنا الذي كتبته؟ ولا أحد كتبَ عن الكتاب كما رأيته أنا». هذا ما يحسّه أيضاً أمام المسرحيات المقتبسة عن كتبه. إذ يجد فيها الكثير من العنف، ولهذا يسأل نفسه أيضاً: «هل أنا كاتب هذا النصّ؟ أم كُتب هذا النصّ بواسطتي؟». وخلص الضعيف إلى أنّ الزمن هو الذي يصنع النصّ، والمسألة ليست مسألة تأويل، لأنّ هذا التأويل تفرضه اللحظة.