إذا جاز أن نقسم الفلسفة الغربية إلى عائلتين كبيرتين، واحدة تضم هوسرل وسبينزوا وراسل وكانط، وأخرى هيغل ونيتشه وشيلنغ وهايدغر، عندها يمكننا تخيّل العلاقة بين البنيوية التي تزامنت مع صعود نجم الوجودية. نحن أمام صراع بين حفيدي العائلتين: شتراوس «الكانطي المبتذل» كما يسمّي نفسه، وسارتر الكيغاردي الأصل، إن جاز التعبير. حول سارتر والوجودية، تحدث شتراوس بعمق في كتابه «زهر الثالوث البري» (1966)، وقد ظهرت نسخته الفرنسية بغلاف حمل صورة أزهار «البانسيه»، لكنه ترجم إلى لغات أخرى بـ «الفكر الوحشي»، إذ يحمل عنوانه الدلالتين. ويذهب شتراوس في الفصل التاسع المعنون «التاريخ والجدلية» إلى مهاجمة سارتر متهماً إياه بأنّه يفصل مجتمعه عن المجتمعات الأخرى، وأنه صاحب منطق تحليلي ضد الفهم الشمولي، وهي مغالطة أصبحت ظاهرة في طريقة عمل سارتر في قراءة التاريخ واستحضاره، بحيث «بات صعباً أن نفهم إن كان يقصد بالتاريخ تاريخ البشر اللاواعي أم تاريخ البشر الذي وضعه المؤرخون، وإن كان تفسير الفيلسوف لتاريخ البشرية أم تفسيره هو نفسه لتاريخ المؤرخين».
ويقدم هذا الصراع الشتراوسي ـ السارتري فرصة، في الحقيقة، لإضاءة صراعات أكبر في الدراسات الإنسانية إجمالاً. فقد ظهرت لاحقاً دراسات كثيرة تناقش الفكر الجدلي الذي يقود للبنائي، والبنيوية التي تستدعي في جوهرها منهجيةً جدليةً. وقد لا يؤسس وجود منهجيّة متممة من الاثنين لنظرية اجتماعية متكاملة، لكنه قد يزيح عقبة هامة أمام ظهور مثل هذه النظرية، حسبما يقول البروفسور ريتشارد براون في أطروحة له عن الموضوع.
كان صاحب «الخزّافة الغيورة» في كتابته بلغة أقرب ما تكون إلى الشعر، كأنه يمضي إلى فتنة موازية لترحّله في العالم البدائي سواء أكان مستكشفاً لعالم موجود أم عالم الأساطير المفقود، لكنها فتنة لغوية لم تعزله قطّ عن البحث وتقديم روائع علمية في
مجاله.
وإن كانت قد خلقت مشكلة لدى الكثير ممن حاول تقديمه إلى لغات أخرى، وخصوصاً الإنكليزية التي استهجنت شاعرية أسلوبه في عالم البحث... بل ذهب النقاد ممن استعصت كتابة شتراوس على تأويلاتهم إلى التشكيك في تماسك الكتابة لديه وفي البنية... حتى انتهى المطاف بتلاميذه إدموند ليش ووردني نيدهام إلى أخذ موقف من معلّمهم، فيما رد شتراوس بأنّ أفكاره قد أسيء فهمها وتقديمها حسبما أشار الناقد باتريك ويلكن في مقالة «قرن ليفي
شتراوس».