أهمّ ما جاء به «الرواقي الأخير» تغييره الجذري للنظرة السائدة في العلوم الإنسانية إلى المجتمعات البدائية
ديما شريف
«عندما بدأت، لم يكن هناك علم للعقل. الآن علم النفس لديه شيء ليقوله». هكذا أجاب كلود ليفي ـــ شتراوس عندما سأله عالم الأنثربولوجيا الأميركي سكوت أتران عن سبب إيمانه بأنّ العقل الإنساني يتصرف اعتماداً على «التناقضات الثنائية». كان ذلك في مؤتمر أقيم عام 1974 وشارك فيه «نجوم» الألسنيات وعلم النفس أمثال نعوم تشومسكي وجان بياجي. وهناك، أعاد شتراوس التأكيد على أنّه لم يعتمد لتطوير فكره سوى على الموسيقى، ونظريات كارل ماركس، وسيغموند فرويد وفردينان دو سوسور.
يعرف الفيلسوف الفرنسي إذاً أهميته وتأثيره الكبيرين على مسيرة العلوم الإنسانية في نصف القرن الماضي عبر أفكاره ونظرياته التي اعتمدت لتطوير الأنتروبولوجيا، الألسنيات، علم الاجتماع وحتى النقد الأدبي. إذ استخدم عدد كبير من الباحثين طريقته في التعامل مع الأساطير عبر تفكيكها بهدف درسها وفق عدد لا متناهٍ من الأشكال مثل الفيلسوف جاك دريدا.
أما الأساطير والشعوب البدائية، فنجدها بكثرة في روايات صاحب غونكور 1970 الروائي ميشال تورنيه. إذ تعبق كتب تورنيه بالأساطير وتزخر بالوحوش والغيلان، وشخصياته مستقاة من الشعوب الأصلية في أفريقيا وأميركا الجنوبية. أما عالم الألسنيات نعوم تشومسكي، فانطلق من أفكار شتراوس في اللغة، وربطه الألسنيات والتحليل النفسي بالانثربولوجيا، ليطوّر علم الألسنيات.
وكان شتراوس قد طوّر نظرية المعرفة (epistemology) الخاصة بأميل دوركهايم ووّسعها لتشمل المجالات المخصصة عادةً للانثربولوجيا، ما أسهم في إقبال على أفكاره من خارج الاختصاص. هكذا اعتمد عالم الاجتماع بيار بورديو على النظرية البنيوية ليبرهن أنّ النظم الاجتماعية تعيد إنتاج نفسها. كما استطاع شتراوس أن «يشدّ» الفيلسوف ميشال فوكو في الستينيات ليصبح من أتباع البنيوية في تلك الفترة، فرافقته صفة «البنيوي»، وخصوصاً بعد صدور كتابه Les Mots et les Choses.
أما أبرز غلاة المتأثرين بشتراوس، فكان الروائي الإيطالي أومبرتو ايكو الذي ذهب في 1988 إلى إنشاء اختصاص «انثربولوجيا الغرب» في جامعة بولونيا التي يرأسها. لا تقف لائحة التأثيرات الشتراوسية هنا بل امتدت لتشمل الناقد رولان بارت، العالم النفسي جاك لاكان والفيلسوف لويس ألتوسير الذي عرف بـ«البنيوي الماركسي».
ما هو سبب هذه الشهرة والتأثير؟ لا يمكن إرجاع ذلك إلى عامل واحد. يرى بعض الاختصاصيّين أنّ أسلوب شتراوس في تزويج المنهجية الكلاسيكية مع تلك الحديثة كان له تأثير كبير على كل من تعاطى في الشأن الأنثروبولوجي والاتنولوجي. فيما يؤكد آخرون أنّ أسلوبه في الدمج في كتاباته بين التحليل المعرفي والجمالية الأدبية أسهم في عملية التأثير. أسلوب انتقده عليه الإنكليز والأميركيون الذين رفضوا مسعاه لما يسميه «مصالحة الحسي بالفكري».
أما أهم ما جاء به «الرواقي الأخير» فهو تغييره الجذري للنظرة السائدة في العلوم الإنسانية إلى المجتمعات البدائية ليُخرج الدراسات المتخصصة بها من من نطاق «الطبيعة» فقط إلى الثقافة والدمج بينهما، ورفض مقولة «الحضارة المتفوقة» أي الحضارة الغربية التي نفى عنها صفتي مميزة ووحيدة في تطورها. كما ساوى بين «العقل المتحضر» و«العقل المتوحش» وناقش مطولاً في «علمية» العلوم الإنسانية.
فهل كان بإمكان أفكار شتراوس وخصوصاً «البنيوية»، أن تؤثر بهذا الطريقة في التفكير الإنساني المعاصر في مختلف المجالات في العلوم الإنسانية، التحليل النفسي والأدب لولا «العشيقات الثلاث» لشتراوس أي الماركسية، الفرويدية والجيولوجيا؟ هل كانت نظرياته وأفكاره قد نجحت وانتشرت اعتماداً على التحليل الفرويدي فقط بمعزل عن التفسير الماركسي للتاريخ وربطهما بالأرض والعمل الميداني؟ في مئوية صاحب «مداريات حزينة» لا إجابة عن هذا السؤال، بل ربما عودة إلى مقولة كارل ماركس التي يشعر شتراوس بأنها تجمعه بصاحب «رأس المال»: «الرجال يصنعون تاريخهم الشخصي، لكن ليس كما يرغبون».