انطفأت وحيدة بعد نصف قرن من العطاءباسم الحكيم
طالما اشتكت ليلى كرم من سوء معاملة الممثلين في لبنان. كل مرّة كانت تتذكّر زملاءها الراحلين: محمد شامل، وحسن علاء الدين (شوشو)، وفريال كريم، وماجد أفيوني وإبراهيم مرعشلي... وحدها صارت تختصر هذا الجيل من الفنانين الذين أسسوا للفنّ الشعبي في لبنان، من طريق التلفزيون أساساً، قبل أن يموتوا وحدهم في الظل، وفي حالة من العوز والبؤس والمرض معظم الأحيان. في عزلة منزلها في برج حمّود، كانت خلال السنوات الأخيرة، تحتجّ وتعترض وتسأل عن «حقوقنا نحن الفنّانين». كلّما تذكّرت صديقها المقرّب ماجد أفيوني أو بلبل (في مسلسل «الدنيا هيك»)، كانت عيناها تدمعان: «كان يتصل بي لنلتقي في Café de Paris في الحمرا»، ثم تلوم نفسها: «اتصل بي، قبل ساعات من رحيله، وأبلغني أنّه يقوم بغسل الكلى. قال: أنا في مستشفى «الحياة»، تعي شوفيني بدي موت. لكن راح ماجد وما شفتو». بدورها، رحلت ليلى كرم أوّل من أمس في مستشفى «أوتيل ديو» وحيدةً في ظلّ إهمال الدولة، فانضمّت إلى قافلة الراحلين من الرعيل الأوّل للدراما اللبنانيّة... وأغلقت فصلاً طويلاً عمره نصف قرن من ذاكرة لبنان الحديث.
إنّها وردة في «الدنيا هيك»، وظريفة في «المعلّمة والأستاذ»، وصاحبة عشرات الشخصيّات التي ما زالت حاضرة في البال في مسلسلات «تلفزيون لبنان» أيّام كان مؤسسة وطنيّة بحقّ، وأيام لم يكن هناك سواه: «الأخرس»، «بيروت بالليل» لحسن المليجي، «النهر»، «إبراهيم أفندي»، «الكابتن بوب»، «البؤساء»، «أبو المراجل» و«فارس ونجود» في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات. أعطت ما يقارب خمسين عاماً من حياتها للفن، بدأتها في إذاعة الشرق الأدنى عام 1956، حين كانت تشارك في تسجيل الإعلانات. في حوار أجريناه ذات يوم، حكت ليلى عن بداية مشوارها: «بعد العدوان الثلاثي وتحوّل «الشرق الأدنى» إلى BBC، كانت الإذاعة اللبنانيّة في حاجة إلى فنانين للتمثيل والغناء، فطلب مني المشاركة في البرامج التمثيليّة. لكنّ عاصي الرحباني رفضني، ثم عاد فأسند إليّ دوراً صغيراً في اسكتش «بحر الستات» بمشاركة فيلمون وهبي وعفيف رضوان ونصري شمس الدين ومنصور الرحباني». لم تقل كرم في هذا الاسكتش سوى عبارة واحدة، لكنّ سبحة الاسكتشات الإذاعيّة لن تلبث أن تكرّ، وأبرزها «براد الجمعيّة». ولم تتأخر البطولة في الإذاعة، إذ سرعان ما طلبها أديب حداد (أبو ملحم) لبرنامجه «صباح الخير». وعند افتتاح التلفزيون عام 1959، أُطلق على البرنامج اسم «مساء الخير»، وكانت الحلقة يومذاك لا تزيد مدّتها على ربع ساعة، لكنّ الإقبال على مشاهدة البرنامج، جعل الإدارة تطلب من حدّاد أن يمد الحلقة إلى ساعة من الزمن. وكان دور أم ملحم في مسلسل «أبو ملحم» الذي أعلن الولادة التلفزيونيّة لليلى كرم، قبل أن ينتقل الدور إلى سلوى حدّاد. وفي أوائل الستينيات، قرّرت مع إلياس رزق الانتقال إلى «القنال 11» فألّفت معه ثنائياً لفترة من الزمن.
لم تخجل كرم يوماً من تاريخها وأصولها. كانت تردّد: «أنا أُمِّيّة... لكنّني أتحدى أساطين اللغة العربيّة». دخلت عالم التمثيل، وهي لا تعرف القراءة والكتابة، وكانت نصوص التلفزيون مدرستها: «عندما بدأت المسلسلات بالفصحى، بقيت في البيت، ورجوت المخرج جان فيّاض أن يعطيني ولو كلمتين، وكانت الجملة الأولى التي قلتها: نعم سيدي، أمرك سيدي. يومها بكى فيّاض، وقال لي لا تعودي إلى التلفزيون، فقلت له: بل ستجدني هنا يوميّاً. وهكذا كان حتى بتّ أتحدى وأجادل من يناقشني في اللغة العربيّة». وكما برعت في الدراما اللبنانيّة باللغة الفصحى، تميّزت في الدراما الاجتماعيّة، فمَن لا يتذكرها مع هند أبي اللمع في مسلسلاتها الشهيرة: «ألو حياتي» و«حول غرفتي» و«السراب» و«غروب» و«الأسيرة» (1980).
في المسرح، تعاملت ليلى كرم مع الراحل يعقوب الشدراوي في مسرحيّة «الأمير الأحمر» (1973) التي شارك فيها أنطوان كرباج وإلياس رزق، وكذلك في مسرحيّة جلال خوري «قبضاي» مع نبيه أبو الحسن. ومع الأخوين رحباني، شاركت في مسرحيّة «ميس الريم». اختارت طريقها الفنّي على قاعدة: «اشتغل مع الكبير بتكبر، واشتغل مع الزغير بتزغر... الرحابنة فنانون كبار، كان عاصي يقول لي: بدي روحك في النص... بعدها بسنوات مثلت معهما خلال الحرب في مسرحيّة «المؤامرة مستمرّة» (1980). أما في السينما، فشاركت في أفلام عدّة من «نغم في حياتي» (1975) إلى «حبي الذي لا يموت» (1983)، مروراً بـ«همسة الشيطان»، ووصولاً إلى باكورة زياد الدويري West Beirut، وقبلها جميعاً لا بدّ من أن نذكر الفيلم الرحباني «بنت الحارس» (1967). لعلّ ليلى كرم كانت بين قلّة من ممثلي الزمن الجميل الذين استمر عطاؤهم وعاصرت جيل الشباب. وهي عرفت كيف تخطف الأضواء في الكوميديا والدراما على حد سواء. اليوم تبقى لنا رزمة صور مصفرّة بالأبيض والأسود... محطات رافقت تكوّن الدولة الحديثة، وعلامات من ذاكرة الزمن الجميل.


قضيّة

في انتظار قانون مهني يحمي الفنانين في لبنان خلال العامين الأخيرين، لم تعش ليلى كرم في منزلها بقدر ما عاشت بين المستشفيات. وهي بقيت منذ الأحد الماضي في حالة موت سريري، قبل أن تُعلَن رسميّاً وفاتها ليل أوّل من أمس. وبعد غياب كرم، وكما في حالة وفاة أي ممثل لبناني من الرعيل الأوّل، تعود إلى الواجهة مسألة المطالبة بقانون مهني يحمي الفنانين، ويوفّر لهم الضمان الاجتماعي وشيخوختهم من العوز. يقول رفيق علي أحمد إنّه «في الماضي، طالب الفنانون بقانون تنظيم مهني، لكنهم لم يلحّوا بطلبهم، لذا لم يُستَجَب لهم، كذلك لم يستخدموا الأساليب الناجعة للحصول على هذا الحقّ». ويتذكّر «النقيب»: «أعددناه وتقدمنا به إلى وزارة الثقافة أيّام الوزير السابق غسان سلامة، كما عُقد اجتماع في لجنة الإدارة والعدل، وأقرّ اقتراح القانون». ويستدرك: «ليس مهماً ما حصل في السابق، بل ما حصل أخيراً. إذ أبدى رئيس مجلس النواب، نبيه بري، حماسة بالغة للأمر، خلال ندوة شعريّة في الأونيسكو، وقدّم دعمه في هذا الشأن، مؤكداً أن هذا القانون قد وضع على نار حامية». وعن حقوق الممثلين من الإعادات المتكررة للدراما اللبنانيّة على شاشة التلفزيون الرسمي. يكتفي علي أحمد بالقول: «ما دمنا لا نملك قانوناً مهنياً، فليس بمقدورنا أن نفرض أي شيء. اليوم بعدما اجتمعت النقابات الفنيّة على مطالب موحّدة، يمكننا فرض شروطنا».

■ يصلّى عن راحة نفس الراحلة عند الثالثة من بعد ظهر اليوم في كنيسة مار يوسف، برج حمود. وتوارى الثرى في مدافن العائلة في مار ضومط. تقبل التعازي في صالون الكنيسة 5 و6 الجاري بين العاشرة صباحاً والسابعة مساءً